الراعي في قداس الشكر: في كلّ تلك الأحداث الصعبة كان لنا الطوباويّ البطريرك إسطفان

تراس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في إهدن مساء اليوم قداس الشكر على تطويب البطريرك اسطفان الدويهي بمشاركة الكاردينال مارشيلو سميرارو والبطريرك يونان وجمع من الأساقفة والكهنة والرؤساء العامين للرهبانيات اللبنانية.
 
وحضر النائب طوني فرنجيه ممثلا الرئيس نبيه بري والوزير زياد مكاري ممثلا الرئيس نجيب ميقاتي وحشد سياسي وعسكري وفعاليات نقابية واجتماعية وحشد من المؤمنين من اهدن والمناطق اللبنانية كافة.

وجاء في عظة الراعي:
 
"يا سمعان بن يونا أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ إرعَ خرافي" (يو 21: 15) .

1.نجتمع اليوم في إهدن لنقيم قدّاس الشكر لله على إظهاره قداسة الطوباوي البطريرك مار إسطفان الدويهي إبن هذه المدينة، وقدّاس التكريم له، بحضور نيافة الكردينال Marcello Semeraro، رئيس مجمع دعاوى القدّيسين، وممثّل قداسة البابا فرنسيس، وقد أعلن باسمه أمس كتابة إسم البطريرك اسطفان في سجلّ الطوباويّين في السماء، وتحديد يوم عيده الثالث من أيّار، يوم ميلاده في السماء.
فالشكر لله على هذه الهبة النفيسة بشخص الطوباوي البطريرك مار اسطفان الدويهي، والشكر لقداسة البابا فرنسيس على أمره بإدارج إسم البطريرك اسطفان بين الطوباويّين، والشكر لنيافة الكردينال Semeraro على تمثيله قداسة البابا فرنسيس.

2. ويسعدني أن أقدّم أطيب التهاني لرعيّتي إهدن-زغرتا، ولآل الدويهي الكرام، ولمؤسّسة البطريرك الدويهي البطريركيّة، ولجميع الذين سخوا وتفانوا في سبيل نجاح دعوى التطويب والإحتفال في الكرسيّ البطريركيّ في بكركي، فليكافئكم الله بفيض الخير والبركات بنعمة وشفاعة الطوباويّ الجديد البطريرك مار إسطفان الدويهي.
 
3. "يا سمعان بن يونا أتحبّني أكثر من هؤلاء؟ إرعَ خرافي" (يو 21: 15).
هذا السؤال كان يتردّد صداه في قلب إسطفان الدويهي إكليريكيًّا وكاهنًا وأسقفًا وبطريركًا، وكان جوابه دائمًا: "نعم يا ربّ، أنت تعلم أنّي أحبّك". كان جوابه هو هو، لم يتغيّر أبدًا، ولم يضعف مع الأيّام، ولم يفتر في الصعوبات ولم يتراجع، وكان مدركًا تمامًا أنّ دعوته، من خلال سؤال يسوع المثّلث، أن يحمل محبّة المسيح للنفوس التي إقتناها بدمه، وأنّ محبّته تمرّ عبر قلبه وعقله وفكره وكلّ قواه.

في سنيّ حياته البطريركيّة الأربع والثلاثين، المثقلة بالمصاعب والإعتداءات والرفض من الداخل والخارج، كان مدركًا أن البطريركيّة هي حمل الصليب وراء يسوع، كما فهمها من آخر كلمة قالها الربّ لسمعان-بطرس: "إتبعني" (يو 21: 19). فتبع بطرس الربّ حتى الصلب سنة 67 على يد الإمبراطور الرومانيّ نيرون، فكان دمه بذار المسيحيّين، وقد تحوّلت روما شيئًا فشيئًا من عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة إلى عاصمة الكثلكة.

4. ففي خريف 1670 اضطرّ البطريرك أن يغادر قنّوبين للمرّة الأولى إلى كسروان، هربًا من الحكّام الحماديّين فرمّم دير مار شليطا مقبس وجعله مقرًّا بطريركيًّا. كان يقوم بزيارة الرعايا مثابرًا على الوعظ والتأليف والتنقيب والبحث في التواريخ والكتب الكنسيّة. وفي آب 1683 انتقل من مار شليطا مقبس إلى دير مار مارون في مجدل المعوش طالبًا حماية الأمير أحمد المعنيّ حاكم الشوف، وذلك على إثر الخلاف الحاصل مع مشايخ كسروان. فكان في رعايا الشوف معلّمًا ومدبّرًا ومقدّسًا وباحثًا. ورمّم كنيسة مجدل المعوش ودير مار يوحنّا في رشميا. وفي آب 1685 عاد إلى دير قنّوبين، بعد أن كتب إليه آل حماده حكّام طرابلس والجبّة، متعهّدين بعدم مضايقته، وملتزمين بحمايته وإكرامه، ولكن سنة 1690 نجد البطريرك للمرّة الرابعة في دير مار شليطا مقبس؛ وفي 24 كانون الثاني 1704 هرب البطريرك من ظلم الحماديين وهي المرّة السادسة والأخيرة إلى دير مار شليطا مقبس، ثمّ يعود إلى قنّوبين في 19 نيسان ليموت في 3 أيّار 1704 حيث أسلافه البطاركة ويُدفن بقربهم.

5. في كلّ تلك الأحداث الصعبة، كان لنا الطوباويّ البطريرك إسطفان ولجميع الأجيال "منارة علم وقداسة".
كمنارة علم ترك الطوباوي البطريرك اسطفان للاجيال تراثًا تاريخيًا وليتورجيًا ومتنوعًا:
فتاريخيًا، كتب التاريخ الماروني للحفاظ على هوية الموارنة الاصلية، والتمكن من احياء ماضيهم. فلم يكن للموارنة تاريخ قبل الدويهي. فكان كتابه الأوّل "نسبة الموارنة او اصلهم"، والثاني، "ردّ التهم ودفع الشُبَه"، والثالث، "احتجاج عن الملّة المارونية"، والرابع، "سلسلة بطاركة الطائفة المارونية"، والخامس، تاريخ المدرسة المارونية في روما 1584، والسادس، مقدّمو جبّة بشري من 1382 الى 1690.

وكتب التاريخ العام في كتابه الشهير "تاريخ الازمنة" فيغطّي بشكل عام تاريخ الشرق الادنى من سنة 622 حتى سنة 1704: ويتحدث عن نشأة الاسلام والاجيال الوسطى وتحركات الصليبيين والقوات الاسلامية المضادة وعهد المماليك وعهد العثمانيين.
وليتورجيًا، ترك لنا كتابه الاول "منارة الاقداس او المنائر العشر" في جزئه الاول شرح لذبيحة القداس، وفي الثاني شرح للنوافير.
الثاني، كتاب الشرطونية المخصص للاسقف في الرسامات، والثالث شرح الشرطونية، والرابع، شرح التكريسات المقدسة، والخامس، كتاب النوافير السريانية، والسادس، اعياد السنة او كتاب الرتب والتبريكات، والسابع، رؤوس الالحان السريانية، والثامن رتبة الاسكيم الرهباني، والتاسع، كتاب اسرار البيعة السبعة، العاشر، كتاب الجنازات، الحادي عشر، سير القديسين. (المنسنيور اسطفان فرنجيّة: منارة علم وقداسة، ص 226-233).

6. كمنارة قداسة: فكان كإكليريكيّ وكاهن وأسقف وبطريرك الرجل المكرّس لله. وكان رجل صلاة بامتياز. يقول عنه عارفوه: "في الصلاة كان يكتّف يديه، ويحني رأسه، ويميل عينيه إلى الأرض، ويجلس في حضرة الله بكلّ خشوع وحشمة". كان يقوم في نصف الليل ويصلّي ويرتّل إلى الله ساعات كثيرة.
ورجل تأمّل بالكتاب المقدّس لإعتباره أساسيًّا وضروريًّا لحياة المسيحيّ. وهذا ما ظهر في كتاباته ومراسلاته ومواعظه.
وكان الزهد الرهبانيّ نمط حياته منذ طفولته حتى وفاته. ومارس التقشّف في اللباس والصيام والإماتات. وكانت له ممارسات مفعمة بالمحبّة الإجتماعيّة، والحسّ الإجتماعيّ، والتواضع المقرون بالكرامة. (راجع طانيوس نجيم: البطريرك اسطفان الدويهي والتراث الشرقيّ، ص 93-112).
ومن علامات قداسته أنّه وشّح في 10 تشرين الثاني بالإسكيم الملائكيّ في دير سيّدة قنّوبين مصلحي الحياة الرهبانيّة، وهم جبرائيل حوّا، وعبدالله قراعلي، ويوسف البتن، وجميعهم من مدينة حلب، فكانت إنطلاقة الرهبانيّتين اللبنانيّة المارونيّة، والمارونيّة المريميّة اللتين كانتا رهبانيّة واحدة ثمّ انقسمتا إلى رهبانيّتين بعد سبعين سنة. وفي 18 حزيران 1700 أثبت بسلطانه البطريركيّ القوانين الأولى، وفي سنة 1702 أثبت رسوم رهبان مار أشعيا الأنطونيّين.

7. يقول لنا الطوياويّ البطريرك إسطفان أنّ محبّة المسيح شرط أساسيّ في قلب من تُسند إليه سلطة في الكنيسة. لكنّ هذا الشرط مطلوب أيضًا في قلب كلّ مسيحيّ يتولّى سلطة في المجتمع أو في الدولة. ذلك أنّ السلطة في المجتمع البشريّ هي من التدبير الإلهيّ. فالله الخالق وضع للعالم نظامًا لكي يعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض، وينعموا بالخير والعدل. فينبغي على السلطة السياسيّة أن تستلهم إرادة الله وتصميمه الخلاصيّ في كلّ عملٍ وتدبير. ما يعني وجوب أن تكون في قلب صاحب السلطة الزمنيّة محبّة الله ومخافته، "لكي يقضي بالعدل للشعب، وبالإنصاف للضعفاء" (مز 72: 2).

ويؤكّد بولس الرسول أنّ "لا سلطان إلّا من الله"، وأنّه وُجد من أجل الخير العام، وتأمين حياة مطمئنة وهادئة نقضيها بكلّ تقوى وكرامة (1 طيم 2: 1-2).

8. في ضوء هذا التعليم الإلهيّ، ينبغي تقييم ممارسة السلطة الزمنيّة. فيجب التمييز بين خيرها وشرّها، بين ما هو عدل وما هو ظلم، بين الخير العام الذي تؤمّنه فعليًّا وخيرها الشخصيّ والفئويّ. ومن حقّ الشعب الذي "هو مصدر السلطات" (مقدّمة الدستور، د) أن يعترض على الظلم والإهمال، وعلى تعطيل عمل المؤسّسات، وعلى كلّ ممارسة لا تحترم المواطن، في حقوقه الأساسيّة، وحريّاته الطبيعيّة، ولا توفّر نمّوه الشامل روحيًّا وإنسانيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا.
هذا ما يقوله لنا الطوباويّ البطريرك مار اسطفان عبر حياته البطريركيّة التي لم تكن سنواتها الأربع والثلاثون سهلة عبر تنقلّاته بين قنّوبين ومار شلّيطا مقبس ومجدل المعوش.

9. فلنرفع صلاتنا إلى الله بشفاعته: نسألك يا إلهنا أن تمنحنا النعمة لكي نسير على خطى الطوباويّ الجديد البطريرك مار إسطفان الدويهي، صابرين على أهوال الحياة، والمظالم والإضطهادات، التي شرّدته من مكان إلى آخر وهو صامد على الإيمان والرجاء والمحبّة، فنشهد لك ولصليبك وقيامتك. لك المجد والشكر ولأبيك المبارك وروحك القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين.