الزميل راجح الخوري "كل من عليها فان"

كتب سركيس نعوم في النهار:

لستُ ماهراً في مدح الذين يستحقّون المديح، كما لست ماهراً في رثاء الذين ينتقلون إلى جوار الربّ بعد انتهاء أيّامهم في هذا العالم أو “زيتاتهم” كما نقول في شمال لبنان. لكنّ ذلك لا يعني أنّ قلبي لم ينفطر حزناً على وفاة راجح الخوري زميلي وجاري في الطبقة الخامسة من مبنى “النهار” الذي كان أروع ما قدَّمه جبران تويني للإعلامَيْن اللبناني والعربي بحداثة التكنولوجيا التي أدخلها إلى العمل الصحافي اللبناني، طبعاً قبل استشهاده في كانون الأول 2005 دفاعاً عن لبنان الذي أحبّ بمسيحيّيه ومسلميه. لبنان السيّد المستقلّ الواحد المُنتمي إلى عالم العروبة ومعه إلى عالم الحداثة والحريّة والديموقراطيّة والاستقلال والسيادة والثقافة لا عالم الجهل والتخلُّف والاستتباع.

عندما بدأت العمل صحافيّاً في “النهار” كان راجح قد سبقني في هذه المهنة بسنوات، وبدأ يترك فيها علامات توحي أنّه سيكون يوماً ذا شأن فيها في لبنان الذي أحبّ أي لبنان ما قبل حروب طوائفه ومذاهبه التي صارت شعوباً مُتناحرة وأحزاباً لكلٍّ منها ربٌّ أو إله يختلف عن ربّ أو إله الأخريات. علماً بأنّ الله واحدٌ أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد. نشأته الصحافيّة في كنف الإعلامي العريق جدّاً وصاحب الانتماء الحزبي المعروف جدّاً أيضاً الراحل جوزف أبو خليل لم تجعله جزءاً من “المُعسكر” الذي كان الأخير “مُوجّهه” الفكري والحزبي إذا جاز التعبير على هذا النحو. بل عمَّق في قلبه غرسة محبّة لبنان والاستعداد للدفاع وبالقلم عنه فضلاً عن سيادته وحريّته واستقلاله وعروبته وديموقراطيّته وانفتاحه على العالم الشقيق وغير الشقيق الأبعد تماماً مثلما فعل ابن بلدته الكفير فارس الخوري لا بل فارس العروبة الحضاريّة غير الطائفيّة وغير المذهبيّة الذي احتضنته سوريا وسلّمته منصب رئاسة الحكومة فيها، أي سوريا ما قبل الانقلابات “الحزبيّة والعقائديّة”.

في “النهار” تعارفنا أكثر الراحل راجح وأنا، وتعمَّقت علاقة الزمالة بيننا ونَمَت ألفة لا غشَّ فيها ومحبّة رغم عدم ترجمتها صداقة خارج إطار عملنا في “النهار”. طبعاً يعرف اللبنانيّون أو بالأحرى صاروا يعرفون أنّ راجح صاحب التجربة العريقة في حزبٍ عريق ومعروف، وفي “الحياة” التي أسّسها الصحافي الكبير الراحل كامل مروّة الذي كان ثاني إعلاميّي لبنان في الاستشهاد من أجل المحافظة على رفعته واستقلاله وحريّته وسيادته، والذي أسَّس صحيفة راقية بكلِّ المقاييس، صاروا يعرفون أنّ “القنّاص” الإعلامي غسّان تويني صديق مروّة وباني مجد “النهار” بعد تأسيسها قانوناً وبدء انتشارها في لبنان هو الذي اختار راجح الخوري للانضمام إلى “النهار”. وقيل لاحقاً إنّه زوّده بطاقة صحافيّة تُفيد أنّه أحد رؤساء التحرير في جريدته معتبراً أنّ ذلك يُساعده في عمله داخل لبنان وخارجه. طبعاً لم ينزل اسم راجح رئيساً للتحرير في الصحيفة لأسباب قالها في حينه الراحل غسّان تويني لراجح فتفهّمها لأنّه كان يُريد النجاح وفرض اسمه على الإعلام والسياسة اللبنانيَّين بلقب وصفة أو من دونهما. علماً أنّه عمل أيضاً مديراً لمكتب “الحوادث” في بيروت واعتبر في حينه تجربته هذه مميّزة.

حزّ في نفس راجح الخوري بدء المتاعب المهنيّة والماليّة في “النهار” التي أحبّ بعد رحيل باني مجدها غسّان تويني واستشهاد ابنه جبران، الذي لو عاش لما كانت صحيفتهما وقعت في العجز الذي طاول لاحقاً وسائل الإعلام اللبنانيّة الأخرى، فأقفل بعضها مثل “السفير” و”الأنوار” واضطرّ بعضها الآخر إلى الانخراط في الانتماءات المحليّة المتناقضة والعربيّة المتناقضة والإقليميّة المتناقضة من أجل الاستمرار وتأمين قوت العاملين فيها. علماً بأنّ ذلك لم يكُن يوماً همّاً أوّليّاً عند الكثيرين منهم.

لم تكن حياة راجح الخوري الصحيّة سهلة بقدر سهولة حياته المهنيّة رغم صعوباتها وعقباتها الكثيرة، إذ أُصيب بـ”علّة” في القلب لكنّه عاش معها وتغلَّب عليها سنوات طويلة، ثمّ تغلّب عليها ثانية قبل سنوات قليلة بعدما عادت إلى الظهور في أثناء رحلة عودة له من دولة الإمارات العربيّة المتّحدة أو قبل عودته منها إلى لبنان بساعات قليلة. لكنّ الله ستَر كما يُقال إذ عولِج في بيروت بإشراف صديق دائم له ولي هو الدكتور غانم الياس. لكنّ القدر أو “القرار الإلهي” وعُذراً لاستعمال هذا التعبير لم يزيدا “زيتاته” فأُصيب بالمرض الذي يُسمّى خبيثاً. فخضع لمعالجة له استمرّت أشهراً أو ربّما أكثر، لكنّ النجاة منه في حالته كانت بالغة الصعوبة.

أذكر عن جاري وزميلي و”صديقي” راجح حزنه الدائم في سنواته الأخيرة على لبنان وإعلامه وطوائفه ومذاهبه. أذكر أيضاً حرقته لما أصاب “النهار” بعد استشهاد حفيد المؤسِّس وحامل اسمه جبران، ثمّ بعد انتقال المُطوِّر ابنه غسّان إلى جوار ربّه.

عزيزي وزميلي راجح، لم يكُن قنوطك بل يأسك من “النهار” ومن الوطن وشعبه الذي كنت أنا أوّل من سمّاه شعوباً وحتّى المرض الذي ضربك مرّتين، لم يكُن ذلك من أنهى حياتك. بل هي إرادة الله الذي لا مردّ لقضائه. ومقولة “أنتم السابقون ونحن اللاحقون” يجب أن تبقى دائماً في وجدان أيّ إنسان وعقله لا لتجعله يعيش في أسر الخوف من الحدث المُحتّم بل لدفعه إلى مزيد من العمل من أجل وطنه، كما من أجل ترك بصمة له فيه. وأنت من هؤلاء، فليرحمك الله.

كنتُ أتمنّى عزيزي وزميلي راجح الخوري أن تبقى على قيد الحياة كي تقرأ ثم تنتقد وتمتدح ما سأكتبه في “الموقف هذا النهار” عن رحلتي الأميركيّة السنويّة التي تحمل أحد الرقمين 26 أو 28. لم أعُد أذكر تماماً و”العتب على الكَبَر” ربّما. لكنّك انتقلت إلى جوار الربّ قبل يومين أو ثلاثة من عودتي من واشنطن. آمل أن يكون ما سأكتبه مُفيداً كالعادة للبنانيّين وغيرهم من العرب إذا شاؤوا ولم يعتبروا أنّهم يعرفون كلّ شيء، مثلما كانت مُفيدة ومهمّة “سلاسل” الرحلات السابقة رغم محاولة البعض أخيراً الحؤول دون هذه الرحلة مباشرة أو مداورة، الأمر الذي أثار استهجان الكثير من الشخصيّات الأميركيّة المهمّة والصديقة وصاحبة الخبرة الواسعة في العمل السياسي والديبلوماسي والبحثي داخل الولايات المتحدة وفي العالم ومن كل الأطياف. علماً بأنّ المحاولة المُشار إليها لم تكُن ناجحة.