رمز جيله رحل شاهراً الحربة!

غالبا ما كنا كجيل صحافي يسمونه مخضرما جسرا وسيطا ووسطيا بين جيلي الحقبة الذهبية السابقة للصحافة حين كانت تتربع منفردة على عرش الاعلام وحقبة الثورة الالكترونية الراهنة التي اقامت معايير ثورية في المعرفة.

لكن بين الجيل الأول، كان راجح الخوري ممن خرقوا القواعد المألوفة وراح يغرف من حقبة محدثة ويضفي عليها مذاقه المعتق . حل راجح في "النهار" في مطالع التسعينات "متحدرا"من مراس استقصائي في اشهر المجلات اللبنانية التي طبعها سليم اللوزي بطابعها الفذ "الحوادث " الى حدود شهادته تذويبا بالاسيد ، كما من خلفية ثقافية مشبعة بسعة الاطلاع العربي والدولي في "الحياة"، فاضاف الى خبرته المتعددة الجانب مراسا في التحقيقات ومن بعدها المقال اليومي الدؤوب الذي لم ينقطع الا بلفظ أنفاسه. هذا الكاتب الذي نذر عمره لمهنة كان يدأب معلم الأجيال الأكبر غسان تويني على اقناعنا بانها "رسولية" كاد يذهب مرات ضحية اندفاعه في التسليم لغسان تويني بهذا المعيار الاثقل اطلاقا على عاتق أي كاتب وصحافي. انبرى راجح الخوري بعد ثورة الأرز خصوصا الى جعل مقاله اليومي ، التجسيد الحي لنضال في الكلمة يوازي ما انتدبنا له انفسنا آنذاك ك"نهار" بعدما نفذ عتاة الاجرام قرار الإعدام الدموي بسمير قصير (الذي تصادف ذكرى استشهاده بعد يومين) وجبران تويني . قطعا لم تكن "النهار" يوما ساحة تجسيد للشعور بكونها رأس حربة القتال الفكري والقيادي ضد الاستباحة الاحتلالية والترهيبية للبنان كما كانت في تلك الحقبة تحت وطأة الاجرام العاتي الذي ضربها في مقتل انساني وبشري وفكري وصحافي ولكنه جعلها تلتهب ثورة على الترهيب والظلامة.

كان راجح الخوري يتفانى في اظهار هذه الابعاد وظل هكذا الى امد طويل ومن ثم انبرى بعد الثورة الثانية ، ثورة الناس المقهورين في 17 تشرين الى تطوير وتحديث مختلف . مذذاك راح راجح الخوري يمعن في نقد عنيف لا يكل وتشريح حاد لا يتراجع لمجمل الطبقة السياسية وكان يبدي تبرمه مما الت اليه بلاد تشهد في يومياتها هذا الكم الهائل من النقد الإعلامي والصحافي ولا يتبدل في كارثتها حرف . وفي المناسبة ، وهذا ليس تفصيلا ، فان راجح الخوري ظل حتى قبل الأسابيع الأربعة الأخيرة يحاول معاندة المرض بمقالاته وظل مواظبا على نحو مدهش على استنفاد الوقت الى اكثر مما يسمح به وقت انجاز الصفحة التي تنشر فيها زاويته لئلا يفوته أي خبر او تطور جديد او معلومات ايضاحية جديدة تتصل بموضوع المقال... الى ان اطبق عليه المرض.

والحال هذه عينات قليلة ومعبرة وناطقة من "شاهد" زميل وصديق يتعين عليه ان ينقل الى الجيل الشاب الاخذ الان في تولي امساك دفة هذه الرسالة العظيمة التي تؤتمن عليها "النهار" كل ما يتوجب معرفته عن الكبار الذين "مروا من هنا" ولا يزال منهم "بركات" كبيرة ننعم بما علمونا إياه لان المعرفة تحتاج الى شهود خلص يقولون الحقيقة ويشهدون للتفاني والوفاء . راجح الخوري ، الذي نهشه المرض وخطفه قبل يومين ، بلغت شجاعته حدود قتال المرض بالمقال . خلته في مرضه ومعاناته ، وانا اقرأ مقالاته ، كأنه يدفع الموت والخوف بحربة الكلمة ويكابر على المرض ويتحداه بمزيد من الصحافي الثائر . نخسر مع كتاب وصحافيين من هذه القماشات ما يصعب تسييله بكلمات .