الظروف المحلية لانتخابات ١٩٥٣

بُعيد انتخابات ١٩٥١، طورت المعارضة برأسيها، كميل شمعون وكمال جنبلاط، تحالفها الى خارج الاطار الانتخابي والنيابي في الشوف عبر خلق محور حزبي من طراز رفيع، وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الرئيس بشارة الخوري. وتزامن ذلك هذه التطورات مع تعثّر المفاوضات بين لبنان وسورية. فبعد سقوط المشروع الاتحادي بين الدول العربية الذي قدمه ناظم القدسي، رئيس وزراء سورية، الى الجامعة العربية، طرحت سورية مجددًا مبدأ المفاوضات على أساس "الوحدة الاقتصادية الشاملة" بينها وبين لبنان. فتجدد الانقسام في الرأي العام اللبناني بين مؤيد يستغل الظروف الاقتصادية الصعبة لغايات سياسية، ورافض يحرص على الاستقلال والسيادة. وسارعت هنا الكتائب الى اتخاذ موقف واضح، من خلال القول ان "الوحدة الاقتصادية التي تفضي آجلاً ام عاجلاً الى انتقاص الاستقلال والسيادة او الى وحدة او اتحاد سياسي لا نقبل بها وسنحاربها بجميع الوسائل المشروعة. وعند مناقشة هذا الموضوع في مجلس النواب اعتبر النائب جوزيف شادر ان "قبول مبدأ التفاوض مع سوريا على أساس الوحدة فيه مسّ لاستقلال لبنان.

 

وبدءًا من ١٣ كانون الثاني ١٩٥٢، تصاعدت وتيرة الاحتجاج على عهد بشارة الخوري. ونتيجة للضغوطات المحلية، استقالت حكومة عبدالله اليافي في ٩ شباط، وترأس سامي الصلح حكومة جديدة بعد يومين. كانت الفاتحة اضرابًا للمحامين احتجاجًا على قانون الأحوال الشخصية، وحركات تذمّر شعبية تناولت مشكلات معيشية عديدة. ودعمت المعارضة التصعيد، فحرّكت وتيرة الغضب الشعبي، وقد أخذت الجبهة الاشتراكية الوطنية في جمع الحلفاء والناقمين على السياسة الداخلية لبشارة الخوري ونفوذ شقيقه "السلطان" سليم. شاركت الكتائب في الاجتماعات الأولى للجبهة الاشتراكية، لكن تأزم الأوضاع الداخلية وتطور المواقف السياسية شقا المعارضة الى فريقين:المتطرف الذي تمثل بالجبهة الاشتراكية الوطنية، والفريق المعتدل الذي كانت الكتائب نواته الأساسية وحمل في بعض المراحل اسم الجبهة الشعبية. ويعود هذا التباعد بين فريقي المعارضة في مكان ما الى ان شخصيات كثيرة من الفريق الأول، أي فريق الجبهة الاشتراكية، كان، وعلى عكس الكتائب، في السلطة، وتحديدًا كمال جنبلاط وكميل شمعون لفترة طويلة، ومنها خلال فترة الانتخابات النيابية عام ١٩٤٧، فكان الأول وزيرًا للاقتصاد والثاني وزيرًا للمالية في الحكومة التي أشرفت على انتخابات ١٩٤٧.

 

جعلت الجبهة الاشتراكية، من الإطاحة بالعهد هدفًا لها، ووجدت في تصرفات بعض المسؤولين ذريعة للتمادي في اتهام الحكم وتحميله مسؤولية الفوضى والفساد. اما الكتائب فعارضت بموضوعية: ففي المجلس النيابي وضع جوزيف شادر مع كتلة نواب بيروت بيانًا "اتهم الحكومة بانشغالها في حزبيات ضيقة الأفق وسياسات محلية بعيدة عن اهداف المصلحة العامة". وعند مناقشة سياسة الحكومة، حمل شادر على "الذهنية السائدة لدى معظم رجال الحكم". ورأى النائب الكتائبي، جان سكاف، ان الطريق التي تسلكها الحكومة "سوف توصلنا الى واحدة من محجتين: إما حكم استبدادي يستأثر به فرد او جماعة .... واما انهيار يضيع تحت انقاضه لبنان ... وليست الإضرابات المتتابعة والاشتباكات المسلحة الدامية إلا قرائن وتباشير إنذارات صارخة باسوداد افق المستقبل الطالع. ولتجنب هذا المستقبل أوضحت الكتائب موقفها وخطتها: فبداية الإصلاح "انقلاب بالعقلية. فإذا لم تقم المراجع العليا بهذا الانقلاب، فإن الشعب سيقوم به بوسائله المشروعة في الدساتير والتقاليد الوطنية.

 

وفي هذه الاثناء اقامت الجبهة الاشتراكية، مهرجانًا سياسيًا في دير القمر حيث تبارى فيه الخطباء بالتهجم على رئيس الجمهورية. أخذت بعد ذلك الاحداث منحىً جديدًا، فبهدف الحيلولة دون تنامي قوة المعارضة من خلال تحول الجبهة الاشتراكية والجبهة الشعبية الى فريق واحد، قام رئيس الجمهورية بشارة الخوري باستقبال اركان الجبهة الشعبية في ٢٠ اب ١٩٥٢. إلا ان رئيس الجمهورية وبسبب الخلافات حول الإصلاح واهميته وطرقه، عجز عن تحقيق هدفه في شق المعارضة. أذ وقبل نهاية شهر اب من ذلك العام، بدأ التعاون الوثيق بين الجبهة الشعبية والجبهة الاشتراكية الوطنية. ولكن اثناء المناقشات وقعت مشادة بين بيار الجميل واحد قادة الجبهة الاشتراكية حول اجراء مفاوضات مع رئيس الجمهورية. واعتبر بيار الجميل ان بعض من هم اليوم في المعارضة قد كانوا جزء من حكم بشاره الخوري، ولذا فهم، ووفق بيار الجميل "في جملة المسؤولين عن الفساد الذي ينادون بوضع حد له". كان موقف بيار الجميل نابعًا ايضًا من رفضه الشديد لتعديل الدستور والخروج على المؤسسات. ويعود هذا الرفض الكتائبي على الأرجح الى الشائعة التي اطلقها وقتذاك بعض المقرّبين من الرئيس بشارة الخوري والتي كانت تقول "ان المعارضة تخفي حركة إسلامية هدفها انتزاع الرئاسة من الموارنة". بالرغم من ان هذه الشائعة كان يصعب تصديقها وقتذاك لأن أكثرية نواب المعارضة كانوا من المسيحيين الموارنة وابرزهم كميل شمعون وحميد فرنجية واميل البستاني وريمون وبيار اده، إلا ان هذه الشائعة اخترقت الشارع المسيحي، وهذا ما دفع المعارضة الى اصدار بيان أكدوا فيه ان نواب المعارضة "لم ينتخبوا لرئاسة الجمهورية غير ماروني". إلا ان كمال جنبلاط لم يكن موافقًا كليًا على هذا البيان، خاصةً وانه كان قد طالب في ٦ أيلول ١٩٥٢، وعبر مقال له في جريدة النهار، بزيادة صلاحيات رئيس الوزراء كأساس لكل اصلاح.

 

 في المقابل، حاول بشارة الخوري اغراء قائد الجيش وقتذاك، اللواء فؤاد شهاب، بالرئاسة، إلا ان هذا الأخير رفض رفضًا مطلقًا الامر. فأنكشف عندها العهد على ضعفه وتشتت اركانه، وصعّدت المعارضة دعواتها الى سلسلة إضرابات شعبية شاملة. إلا ان الرئيس الخوري فقد الدعم الذي يمكّنه من الاستمرار في منصبه والقدرة على الحكم: الشارع في يد المعارضة، الغالبية النيابية عاجزة، الجيش على الحياد، لا زعيم سنيًا يتعاون معه لتأليف حكومة جديدة. أوصدت دونه أبواب الحلّ وإنقاذ شرعيته المتهاوية في الشارع والسلطة في آن واحد. فأخذ قرار الاستقالة من منصب رئاسة الجمهورية. انحصرت بعد ذلك أسماء المرشحين للرئاسة بين حميد فرنجية من الشمال وكميل شمعون من جبل لبنان، ولكن قبل الاختيار بين الاثنين حاول كمال جنبلاط اللجوء الى خيار ثالث متمثلّ باللواء فؤاد شهاب، إلا ان الأخير رفض رفضًا مطلقًا العرض الذي قدمه له جنبلاط. رشّحت عندها الجبهة الاشتراكية نائب الشوف كميل شمعون. وكان هذا الأخير، وقبل توليه رئاسة الجمهورية، عضوًا سابقًا في الكتلة الدستورية التي تزعمها الشيخ بشارة الخوري، والتي كانت تظهر انفتاحًا في علاقاتها العربية، بخلاف التوجهات السياسية للكتلة الوطنية المنادية بخصوصية لبنانية متمايزة عن المحيط العربي. وهكذا تحول شمعون الى Primus inter pares، وبالتالي المرشح الاوفر حظًا.

 

وفي ٤ تشرين الثاني ١٩٥٢، أي بعد أقل من شهر ونصف الشهر على بدء عهد الرئيس كميل شمعون، اصدر هذا الأخير المرسوم الاشتراعي رقم ٦ الذي عُدّلت بموجبه مواد أساسية في قانون الانتخابات النيابية الصادر في ١٠ اب ١٩٥٠. اما اهم التعديلات التي اقرّها المرسوم المشار اليه هي التالية: يتألف مجلس النواب من ٤٤ عضوًا (المادة ١). تقسم الجمهورية اللبنانية الى ٣٣ دائرة انتخابية (المادة ٢). أما ابرز ما حمله هذا القانون من جديد فكان منح المرأة حق الاقتراع (المادة ٢١). وفي ٣٠ أيار ١٩٥٣ صدر مرسوم رقمه ٢٠٦٢ يقضي بحلّ مجلس النواب المنتخب عام ١٩٥١ وذلك قبل إكمال ولايته الدستورية المحددة بأربع سنوات. وكان هذا المجلس اصغر المجالس عمرًا في تاريخ المجالس النيابية، بحيث قضى من ولايته سنة وعشرة اشهر وخمسة ايام . وقد جاء في حيثيات الحل انه "لما كان المجلس النيابي قد أثبت عجزه عن تأدية مهمته، كما أمه تهاون في إنجاز الاعمال الكثيرة بسبب تخلّف أعضائه عن حضور اللجان المختلفة، ومغادرته الجلسات قبل الأوان، مما أدى الى فقدان النصاب وتعطيل العمل التشريعي .... وكان الشعب يرغب في تمثيل صحيح، اعرب عنه مرارًا، إلا انه كان مكبلا بتعديل قانون الانتخاب".