العاملات الأجنبيات خلال الحرب: مأساة تضاف لنظام الكفالة

كتبت فرح منصور  وميشال داوود في المدن

كشفت الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان بين عامي 2024-2025 هشاشة وضع العاملات الأجنبيات في لبنان، إذ تبيّن أن عشرات العاملات تُركن في الشارع ولم تتحمل أي جهة رسميّة مسؤولية حمايتهن، فتحركت بعض الجمعيات المدنية والمبادرات الفردية من أجل تأمين مراكز إيواء لهن أو مساعدتهن للعودة إلى بلدانهن.

تعرضت العاملات لشتى أنواع الإبتزاز خلال ممارسة عملهن في لبنان، وتظهر متابعة المركز اللبنانيّ لحقوق الإنسان أن العاملات تعرضن للاستغلال الماديًّ وواجهن العنف الجسدي والنفسيّ، وسُرقت رواتبهن، واحتجزن بسبب نظام الكفالة المقيد.

شهادات العاملات

"ارتفعت أصوات الانفجارات، اهتزّ المنزل لدقائق، وكُسر الزجاج، لم أفهم حقيقة ما يحصل في الخارج، ظهر الخوف على ملامح الجميع، طلبت من السيدة نورا (صاحبة المنزل) شرح حقيقة هذه الأصوات في الخارج، فأجابت أنه ما من وقت للكلام وسيكون خطرًا كبيرًا البقاء في المنزل ويجب المغادرة فورًا، ركضت إلى غرفة أطفالها لوضع ملابسهم داخل الحقائب، لكنها لم تطلب مني أن أجهز حقيبتي، بل طلبت مني المغادرة من المنزل".

ريتا (اسم مستعار) هي عاملة منزلية من سيراليون وصلت إلى لبنان في العام 2023، من أجل تأمين فرصة عمل مناسبة وتقديم المساعدة المالية لعائلتها في كينيا، وخلال الحرب تخلى عنها أصحاب المنزل، وتقول: "لم يكن أمامي أي خيار آخر سوى النزول إلى الشارع في ساعات الليل، كان الخوف يسيطر عليّ لأنني لا أعلم طبيعة الشوارع، ولا قدرة لي على التكلم باللغة العربية بطلاقة للتواصل مع الناس وطلب المساعدة، فاتصلت بأصدقائي وساعدوني للوصول إلى بيروت وطلبت المساعدة من المركز اللبناني لحقوق الإنسان(CLDH) ".

وأيضًا، ماغي (اسم مستعار) هي عاملة منزلية من كينيا، وصلت إلى لبنان في تموز العام 2024، وانتقلت إلى العمل في منزل عائلي، وتعرضت للإبتزاز المالي خلال عملها، وتقول: "كان ضغط العمل المنزلي كبيرًا جدًا، ولم تكن ساعات نومي تتجاوز الـ5 ساعات. في الشهر الأول من العمل أبلغتني العائلة أن راتبي سيتأخر بسبب الأوضاع الأمنيّة، وفي منتصف الشهر الثاني أبلغوني أنهم اتخذوا القرار بإعطائي راتبي كل عدة أشهر، وفجأة ازداد الوضع الأمني سوءًا وبدأ القصف الإسرائيليّ، وتحولت منطقة سكنهم لمنطقة خطرة لكونها معرضة للاستهدافات المتكررة، فنزحوا من المنزل وتُركت في الشارع العام من دون راتبي الشخصيّ ولم يعط راتبي بحجة الضائقة المالية بسبب الحرب. لم أكن قادرة على التحرك، وبعد أيام طلبت المساعدة من جمعية CLDH وتواصلت معهم لمساعدتي في العودة إلى بلادي والاجتماع بعائلتي".

هذه الشهادات هي عيّنة صغيرة. إذ صرّح رئيس مكتب المنظمة الدولية للهجرة في لبنان ماثيو لوتشيانو سابقا خلال الحرب، عن تلقيهم تقارير متزايدة عن عاملات منزليات مهاجرات تخلى عنهن أصحاب عملهن اللبنانييون قبل فرارهم، وتركن في الشوارع أو المنازل، وأنهم يتلقون طلبات من مهاجرات يطلبن المساعدة للعودة إلى بلادهم".

استجابة الجمعيات

تتولى المحامية سارة يوسف في المركز اللبناني لحقوق الإنسان الدور الأساسي في حماية العاملات ومنع التعرض لهن خلال ممارسة عملهن في لبنان.

 وتشرح يوسف أن مهمتهم "ليست محصورةً بالعمل القانوني لحماية العاملات بل بمواجهة كل التحديات من أجل تحقيق الكرامة والحرية والعدالة، وليس مسموحًا أن يواجه أي شخص الظلم لأنه يسعى لتأمين قوت يومه في بلد آخر، ومن الصعب أن لا يتمكن أي شخصٍ من الإفصاح عن المآسي التي يمر بها".

وتتابع: "خلال الحرب واجهت الكثير من العاملات الظلم وتم التخلي عنهن، وترك الكثير من العاملات اللواتي يحملن الجنسية السيراليونية في الشوارع في منطقة الرملة البيضا، وأبلغنا بالكثير من المشاكل التي واجهتها العاملات خلال الحرب كالتعرض الجسدي والنفسي لهن، والاعتقال التعسفي بسبب تشردهن في الشارع من دون الأوراق الثبوتية والقانونية. وواجهن صعوبات كثيرة وعملن لساعات في منازل بشكل مستقل من أجل تأمين احتياجاتهن".

ومع اشتداد وتيرة الحرب في لبنان، كشفت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة عن ارتفاع حالات تخلي الأسر اللبنانيّة عن العاملات المنزليات والأجنبيات وتركهن يواجهن الخطر. وذكرت أن هناك نحو 170 ألف عامل مهاجر في لبنان، تشكل النساء من إثيوبيا وكينيا وسريلانكا والسودان والفلبين نسبة كبيرة منهم.

من أجل هذه الحالات، عمد المركز اللبناني إلى تخصيص قسم قانونيّ يهدف إلى تقديم المساعدة القانونية في حال احتجاز العاملات داخل مكاتب العمل. وخلال الحرب قدمت المساعدة لهن من أجل الرجوع إلى بلادهن، وذلك بعد التنسيق مع الجهات المعنية لأن العديد من العاملات احتجزت جوازات سفرهن، كما أن هناك مساعدات لتقديم الدعاوى القضائية أو الشكاوى من خلال التعاون مع السفارات والمنظمات الدولية ومجموعات حقوق الإنسان لتطوير آليات حماية أقوى واستراتيجيات استجابة الأزمات للعاملات في الصناعات المتعددة الجنسيات، فالشكاوى تقدم ضد العائلات التي عملوا داخل منازلهم، ويتم الضغط أكثر على نظام الكفالة الاستغلالي.

في السياق نفسه وفي اطار الاستجابة للتحديات المتفاقمة على العاملات الاجنبيات جرّاء الحرب، تشير رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم مناهضة الاتجار بالبشر في منظمة كفى المحامية موهانا اسحق، أنهم تلقّوا حوالى 19 حالة من العاملات الأجانب اللواتي يحتجن إلى مساعدة خلال الحرب وهم على الشكل التالي:

 6 حالات تُركن أمام السفارات والقنصليات فجأة

 8 حالات تركن في الشوارع بعد الطلب منهن مغادرة المنزل

 حالة واحدة تركها أصحاب المنزل في مكتب التوظيف

 حالة واحدة احتجزت داخل مكتب

 حالتان تركتا بعد أن غادر أصحاب المنزل إلى خارج لبنان

 حالة واحدة كانت خارج المنزل وعند عودتها اكتشفت أن المنزل قد قصف وأصحاب المنزل تركوه وغادروا من دون تأمين مأوى لها.

وفي التفاصيل، تنوّعت جنسيات العاملات الأجنبيات بين بنين(غرب أفريقيا)، سيراليون، سريلانكا، كاميرون، مدغشقر، توغو. وقد قدّمت الجمعية مساعدات عديدة لهن، كتأمين الملجأ الآمن لثمانية عاملات، مساعدة 14 عاملة في العودة إلى بلدهن بعد شراء تذاكر السفر وإصدار الأوراق الإدارية والقانونية من السفارات والهيئات العامة.

بالإضافة إلى ذلك، تم دعم أكثر من 500 عاملة منزلية بشكل مستقل داخل المنازل عبر تأمين دعم نفسي واجتماعي ومساعدات عينيّة ونقديّة.

الملاحقة القانونيّة

وفي حديث خاص مع المحامي فاروق المغربي المتابع لملفات حقوق الإنسان، أوضح أن هناك الكثير من العائلات التي تخلت عن العاملات المنزليات خلال ازدياد وتيرة الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتركوا في الشارع، علمًا أن العدد الاكبر من العاملات لا يكتسبن اللغة العربية ولا يملكن القدرة على التواصل مع الأشخاص في الشوارع لطلب المساعدة، ولم يكن يملكن القدرة المالية للتحرك بسهولة والتنقل لمناطق آمنة. والجمعيات المدنية هي التي اهتمت بهن وقدمت لهن الخدمات، والدولة اللبنانية لم تتحمل المسؤولية.

ويضيف أّن التخلي عن العاملات خلال الحرب عرّض حياتهن بشكل مباشر للخطر، وكان بفترض تأمين مراكز آمنة لهن أو إجلاءهن خارج لبنان، وهذا الأمر كان من الممكن التسبب بموتهن. وبموجب عقد العمل فإن أصحاب العمل ملزمين بتأمين الإقامة والمأكل والمشرب والسلامة العامة للعاملات، وما فعلوه كان مخالفًا لقانون العقوبات بما يصل لحد الاحتمال القصدي بالقتل، كما أنهم خالفوا قوانين العمل التي تضمن وتلزم صاحب المنزل بالحفاظ على حياة العاملة المنزلية.

وبالعودة إلى المادة 189 من قانون العقوبات، تنصّ المادة على أنّ "الجريمة المقصودة، وإن تجاوزت النتيجة الجرمية، الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل، قصد الفاعل، إذا كان قد توقع حصولها فقبل المخاطرة". 

أي وبمعنى آخر، إذا كان الشخص يعلم أن هناك خطراً جديا من أن تؤدي أفعاله أو امتناعه إلى نتيجة ضارة أو جريمة، واستمر في تصرفه من دون الاكتراث لهذا الخطر، فإن القانون يعتبر أن لديه "نية" أو قصد لتنفيذ الجريمة حتى لو كانت النتيجة النهائية تتجاوز ما كان يتوقعه.

خطة الطوارئ الوطنية: لم تكن كافية لضمان الاستجابة

تقول موهانا اسحق، أنّ جمعية كفى تلقّت اتصالات من عاملات أجنبيات يطلبن مساعدتهن لترك المنازل التي يقيمون فيها بسبب تعرض المناطق القريبة منهن للقصف الإسرائيليّ، وطلبوا تأمين منازل أخرى لهن في مناطق آمنة، ليتبيّن أنّ هناك عاملات منعن من النزوح لمدارس رسمية التي فتحت أمام النازحين. ومن خلال المتابعة، لم يصدر من الدولة اللبنانية أي قرار رسمي حول هذا الأمر، إنما اتخذ القرار من أصحاب بعض مراكز الإيواء بإعطاء الأولوية للمواطنين اللبنانيين.

وهنا تطرح اشكالية أخرى وهي جهوزية الدولة اللبنانية للاستجابة إلى متطلّبات جميع سكان لبنان. إذ وبالعودة إلى خطة الطوارئ الوطنية التي وضعتها الحكومة في تشرين الأول 2023، نرى أنّ العمال الأجانب كان من المفترض أن يتمّ مقاربة آلية الاستجابة لحاجاتهم بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة.

وفي هذا الإطار، كانت قد زارت رئيسة المنظمة الدولية للهجرة ايمي بوب لبنان في كانون الأول 2024، والتقت المسؤولين بالإضافة إلى زيارة ميدانية لمركزي ايواء يضمان عمال أجانب والذين أعربوا عن وضعهم الصعب والتحديات التي يواجهونها في الحصول على المساعدات الانسانية.

وكانت قد أطلقت المنظمة نداء عاجلا بمجموع 426 مليون دولار للاستجابة لحاجات المهاجرين والذين تأثّروا جرّاء الحرب.

ولكن وعلى الرغم من تضمين خطة الطوارئ شؤون العمال الأجانب، وعمل المنظمة الدولية للهجرة، استمرت معاناة العمال الأجانب بالتفاقم رغم انتهاء الحرب خصوصا بالنظر لانعدام أطر الحماية لهم، الأمر الذي يطرح أيضا تحد آخر يجب وضعه على طاولة النقاش وهو الوضع الاجتماعي والقانوني للعمال الأجانب في لبنان وطرح الحلول بما يرعى حقوق هذه الفئة.

وفي هذا السياق، ترى اسحاق أن أهم الدروس المستقاة من الحرب هي تجنب الحروب ومآلاتها بشكل أساسيّ، لأنها تحمل تداعيات خطيرة على كل فئات المجتمع وتحديدًا الضعيفة التي تفتقد للإمكانيات، إضافة إلى ضرورة تحمل الدولة المسؤولية من خلال وضع الخطط اللازمة لحماية الأشخاص في حال اندلاع الحرب، كالأماكن الآمنة والمأكل والمشرب، وإبعادهم عن الخطر، وتسليط الضوء إعلاميًا لمواكبة الفئات الهشة في الحروب التي لا تحظى بدعم خصوصًا في ظل وجودهم في بلد يشهد أسوأ انهيار اقتصادي، هذا عدا عن تسليط الضوء على الحاجات الأساسية واللوازم الضروريّة.