المصدر: الديار
الكاتب: ندى عبد الرزاق
السبت 19 تموز 2025 08:11:38
في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التحوّل الرقمي حول العالم، لم يعد توظيف الذكاء الاصطناعي مجرد ترفٍ تكنولوجي، بل أضحى ضرورة استراتيجية لمواكبة متطلبات العصر وتحدياته المتزايدة. اذ لم يعد الذكاء الاصطناعي موضوعاً للأبحاث أو حقلًا متخصصاً في مختبرات الشركات الكبرى فقط، بل أصبح وسيلة مفيدة فعالة تُحدث فرقاً ملموساً في حياة الناس، لا سيما في مجالات حيوية كإدارة السير والسلامة المرورية.
الجدير بالذكر انه في بلدٍ كلبنان، حيث تشهد الطرقات يومياً مشاهد من الفوضى، الحوادث، والاكتظاظ الخانق، يبدو أن الحديث عن إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى هذا الواقع، قد يبدو للبعض طموحاً بعيد المنال. غير أن الواقع يُثبت العكس: فتطبيق هذه التكنولوجيا لم يعد خيالا، بل بات خياراً واقعياً وملحاً، وبدأت بالفعل بعض الجهات الأمنية، كمخفر الطيونة، بخطوات عملية على هذه الطريق.
ما كان يُنظر إليه يوماً كحلم مستقبلياً، بدأ يتحول إلى ممارسة قائمة، بفضل الأنظمة الذكية القادرة على رصد المخالفات تلقائياً، تحليل أنماط حركة المرور، التنبؤ بمناطق الازدحام، والتدخل السريع عند الحوادث.
من هذا المنطلق، ان استثمار الذكاء الاصطناعي في هذا الإطار، لا يحمل فقط بعداً تقنياً، بل يُجسد خطوة نحو بناء مؤسسات أكثر فعالية، ويعكس نضجاً في التفكير الأمني الحديث، حيث تتلاقى التكنولوجيا والخدمة العامة لتحسين حياة المواطنين. فمتى تم توظيف هذه الوسائط بشكل مدروس وشامل، فإنها قد تشكّل فارقا حقيقيا في خفض نسب الحوادث، تسهيل التنقل، وتحرير العنصر البشري من المهام الروتينية، ليركّز على الأدوار الاستراتيجية.
من هنا، تتجلى أهمية تحليل هذا التوجّه، والوقوف عند الآليات التي تتيح لقوى الأمن الداخلي الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كأداة تقنية، بل كرافعة للتنمية والسلامة العامة في لبنان.
مخفر الطيونة: رقابة ذكيّة بدأت تؤتي ثمارها
في خطوة تعكس توجهاً جديداً نحو تحديث آليات العمل الأمني في لبنان، بدأ مخفر الطيونة بتشغيل نظام متطور يعتمد على كاميرات مراقبة ذكية، مزوّدة بتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، ما يشكل تجربة لافتة في مجال تنظيم المرور، ومكافحة المخالفات بشكل أكثر دقة وسرعة.
وفي هذا المجال، يتحدث مصدر أمني لـ "الديار" عن ان "هذه الكاميرات باتت قادرة على رصد المخالفات بشكل لحظي عبر قراءة تلقائية للوحات السيارات، وإصدار الضبط بشكل فوري دون الحاجة لتدخل يدوي. كذلك، يمتلك هذا النظام خاصية جديدة تُعد سابقة في العمل الأمني المحلي، لجهة القدرة على كشف اللوحات المزورة، من خلال الربط المباشر مع قاعدة بيانات مركزية، ما يعزز الرقابة ويحدّ من التلاعب بالهويات المرورية".
ويؤكد المصدر نفسه أن "هذه التجربة، وإن كانت لا تزال محصورة ضمن نطاق جغرافي محدود، أظهرت مؤشرات إيجابية في ما يتعلق بتحسين الأداء اليومي لعناصر قوى الأمن، وتخفيض الضغط الناتج من المخالفات المتكررة. ويشجع تعميمها على باقي المخافر في المناطق اللبنانية، لأن هذا النوع من الأنظمة الذكية لم يعد خيارا تكنولوجيا فقط، بل ضرورة في ظل التحديات المرورية المتصاعدة".
من التجارب العالمية إلى الحاجة المحلية
ويوضح المصدر الأمني ان "توظيف الذكاء الاصطناعي في تنظيم حركة السير، ليس حكرا على الدول المتقدمة. ففي مدن مثل دبي وسنغافورة وباريس، باتت الأنظمة الذكية جزءا أساسيا من البنية المرورية: تحليل فوري لحركة المركبات، إشارات ضوئية قابلة للتعديل تلقائيا، رصد أتوماتيكي للمخالفات، واستجابة عاجلة للحوادث".
ويشير المصدر الى ان "الفرق الجوهري في هذه الأجهزة، يكمن في قدرتها على اتخاذ قرارات ذاتية مستندة إلى بيانات واقعية، ما يجعلها أكثر كفاءة من الطرق التقليدية التي تعتمد على العنصر البشري فقط. من هنا، تُظهر التجربة الناشئة في مخفر الطيونة، أن استعمال هذه التقنيات ليس مستحيلًا، بل هو قابل للتنفيذ في ظل الإرادة والتخطيط".
حلّة جديدة للسير!
ويشرح المصدر الأمني ان "الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إدارة السير، يُحدث فارقا حقيقيا في ثلاثة محاور مركزية، إذا تم تفعيله بشكل جدي:
- الرصد الالي للانتهاكات: التقنية قادرة على كشف تجاوز الإشارات الحمراء، السرعة الزائدة والسير عكس الاتجاه فوراً، ما يمنع التراكم العشوائي للمخالفات ويزيد من الانضباط.
- تحليل حركة المرور: عبر تجميع البيانات من الكاميرات ونقاط المراقبة، يتم تحديد أكثر المناطق احتشاداً، مما يتيح إعادة توزيع عناصر الأمن أو تعديل توقيت الإشارات بطريقة ديناميكية.
- الاستجابة للحوادث: الأنظمة المرتبطة مباشرة بمراكز العمليات تُمكّن الفرق الأمنية أو الإسعافية من التحرك فوراً نحو مكان الحادث، بناء على تنبيه ذكي صادر عن تحليل بصري أو صوتي في الحال.
التكنولوجيا تصطدم بالبنية التحتية "المهترئة"!
ويشدد المصدر الامني على انه "رغم أهمية هذه المعدات ونجاحها النسبي في مخفر الطيونة، فإن تعميم التجربة على نطاق أوسع يصطدم بعوائق واضحة. البنية التحتية الضعيفة في العديد من المناطق، من انقطاع التيار الكهربائي إلى ضعف شبكة الإنترنت، تشكل عائقا مباشرا أمام نشر هذه الأنظمة الحساسة والمعقدة".
ويتابع "إلى جانب ذلك، نقص التمويل والدعم الفني، وغياب خطة وطنية موحدة للتحول الرقمي، تجعل من اعتماد الذكاء الاصطناعي جهدا محصوراً بمبادرات فردية، بدل أن يكون سياسة عامة. كما تُطرح تساؤلات حول الخصوصية والمراقبة، في ظل غياب أطر قانونية تنظم كيفية جمع المعلومات ومعالجتها وحمايتها من الاستغلال".
تحديث قوانين السير أولوية!
ويقول أحد عناصر قوى الامن الداخلي لـ "الديار": "لا شك أن الأنظمة الذكية في مخفر الطيونة، ستساعد في رفع مستوى الكفاءة وضبط المخالفات بشكل دقيق، دون استنزاف القوى البشرية، لذا يجب أن يتحوّل هذا النموذج إلى "سياسة وطنية"، بدل أن يبقى تجربة موضعية".
من جهته، يرى أحد الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي في لبنان، أن التجربة "واعدة لكنها بحاجة إلى تأمين استدامة تقنية، وتدريب العناصر الأمنية على إدارة وتحليل المخرجات"، مشددا على "ضرورة أن تُرفق هذه التقنيات بسياسات واضحة لحماية البيانات".
في المقابل، يعبّر بعض المواطنين لـ "الديار" عن ارتياحهم لفكرة وجود رقابة ذكية، لكنهم يطالبون بأن يتم استخدام هذه التقنيات لخدمة الصالح العام، وليس فقط لتحصيل المخالفات المالية، ويؤكدون ضرورة الشفافية في طريقة استخدامها.
مشروع وطني بامتياز!
في سياق متصل، تكشف مصادر سياسية مطلعة لـ "الديار" أن "نجاح تجربة الكاميرات الذكية في مخفر الطيونة، يجب ألّا يبقى محصورا جغرافيا، بل يُفترض أن يشكّل منطلقاً نحو خطة وطنية شاملة، لإدارة السير بوسائل تكنولوجية حديثة. فبناء شبكة مرورية ذكية على مستوى البلاد، يتطلّب خطوات متكاملة تبدأ بتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لتأمين التمويل الكافي وتوفير بنية تقنية مستدامة قادرة على مواكبة التطور".
وتُبرز "أهمية تحديث البنية التحتية الرقمية، خصوصاً في المناطق ذات الكثافة المرورية العالية، عبر تحسين خدمات الإنترنت وتوفير الطاقة الكهربائية، لضمان استمرارية عمل الأنظمة الذكية. كما لا يمكن فصل نجاح هذه التقنيات عن العامل البشري، إذ يُعدّ تدريب عناصر قوى الأمن الداخلي على إدارة وتحليل بيانات الذكاء الاصطناعي، جزءاً أساسياً من بناء هذه المنظومة الحديثة".
إلى جانب البُعد التقني، تؤكد المصادر السياسية أن "المشروع لا يكتمل دون إصدار تشريعات، تنظّم استخدام البيانات وتحمي خصوصية المواطنين، بما يضمن الشفافية والمساءلة في جمع المعلومات المرورية ومعالجتها. وفي ظل التحديات المرورية المتزايدة، يعدّ لإطلاق خطة وطنية مرورية ذكية ، تبدأ من المناطق الحضرية الكبرى، خطوة أساسية نحو تنظيم أكثر كفاءة لشبكة السير في لبنان، وتقليل الحوادث والاختناقات التي أصبحت جزءا من الحياة اليومية للمواطن اللبناني".
ختاماً، في بلدٍ يرزح تحت ضغط الأزمات المتراكمة، يُثبت إدخال الذكاء الاصطناعي في تنظيم السير، أن التقدّم ممكن حين تتوفر الإرادة والتخطيط. تجربة مخفر الطيونة ليست مجرد إنجاز تقني، بل إشارة واضحة إلى أن التكنولوجيا ليست بعيدة عن الواقع اللبناني، بل قادرة على تصحيح اختلالات مزمنة، إذا ما تم تبنيها ضمن رؤية شاملة.
اليوم، تقف القوى الأمنية أمام فرصة لتحويل هذه المبادرة إلى منظومة وطنية متكاملة تعيد الثقة إلى الشارع، وتعيد الاعتبار إلى السلامة العامة ،كمصلحة جماعية لا تحتمل التأجيل. فهل يتحوّل النموذج المحلي إلى نهج عام؟ أم تبقى "العيون الذكية" محصورة في زوايا محدودة لا ترى حجم الحاجة الفعلية؟