المصدر: الديار
الكاتب: ربى أبو فاضل
الأربعاء 4 حزيران 2025 07:58:01
لم يعد "لبنان الأخضر" مجرد لقب، بل ذاكرة مهددة بالاندثار. فبين التغير المناخي والإهمال البشري، تشهد غابات لبنان سنويا موجات حرائق متزايدة، تحول الحياة إلى رماد وتدمر التنوع البيولوجي، هذه النيران ليست مجرد كوارث طبيعية، بل مصدر لانبعاثات خطيرة تؤثر على الهواء والصحة العامة، وتسهم في رفع البصمة الكربونية الوطنية.
تبلغ مساحة الأرض الخضراء في لبنان 3,660 مليون متر مربعا ، أي ما يشكل نسبة 35% من مساحة لبنان، هذه المساحة تشمل الغابات والأراضي الزراعية والمناطق الخضراء الأخرى في جميع أنحاء البلاد، و تقدر مساحة الغابات بنحو 136,900 هكتار، أي ما يعادل 13.2% من إجمالي مساحة الأراضي في البلاد.
لبنان المعروف بجمال طبيعته وغاباته الخضراء التي تحتضن أرزاته الشهيرة، يمر بأزمة بيئية خطيرة تهدد جوهره الأخضر . فخلال السنوات الأخيرة تحولت الحرائق الموسمية من ظاهرة طبيعية محدودة، إلى كارثة بيئية متكررة وواسعة النطاق.
الحرائق تقتل العديد من الحيوانات
وفي هذا السياق، اكد استاذ مساعد بالجامعة اللبنانية كلية العلوم - الفنار، ومختص بالتنوع بيولوجيا ايكولوجيا الغابات الدكتور جان اسطفان لـ"الديار أن "تأثير الحرائق لا يقتصر فقط على النباتات، بل لها تأثير يقع على التربة والمواد العضوية. فبسبب الحرارة تتحول التربة إلى رماد، مما يؤدي إلى قتل للحيوانات المجهرية في التربة "، مؤكدا على "عدم وجود دراسات موثقة عن تأثير الحريق على التربة"، وأضاف ان " تأثير الحريق يمتد إلى النباتات التي لم يصل إليها الحريق، مما يؤثر على نموها ، فهي لا تستطيع أن تقوم بالتمثيل الضوئي "fotosüntees"مما يؤدي إلى خسارة في نموها لمدة عام، ومن بعدها تقوم بتجديد نفسها".
ولفت إلى أن "الحرائق تقتل العديد من الحيوانات التي لا تستطيع الهرب من الحرائق"، وأشار إلى "أن القانون اللبناني يمنع إضرام النار بالغابات على مسافة 500 متر من أول تموز وحتى نهاية شهر تشرين الأول، وخلال هذه الفترة يحق للبلديات تسطير محاضر الضبط بحق المخالفين وفقا للقانون "، داعيا البلديات الجديدة "للإطلاع على هذا القانون لحماية ما تبقى من غابات لبنان".
كما دعا "إلى إلى إزالة الحشيش اليابس، وتقليم الأشجار على جوانب الطرقات والبساتين على علو 2 متر لتجنب الحرائق، وتسبيخها وإرسالها للمزارعين"، كما شدد على "عدم حرق النفايات بالأماكن التي لا تمتلك مكبات"، مفضلا فرزها والتخلص منها بطرق اخرى أكثر أمانا.
يشار إلى أن قانون الغابات رقم 11 الصادر عام 1949 ينظم إدارة الغابات، بما في ذلك الإشراف عليها وقطع الأشجار، ويحدد قواعد الاستثمار في الغابات، يضاف إليه قانون المحافظة على الثروة الحرجية والاحراج رقم 85 الصادر عام 1991، وقانون حماية الغابات رقم 558 الصادر عام 1996 ، والقرار 705/1 الصادر عن وزارة الزراعة عام 2012 بشأن "تنظيم قطع اشجار واستثمار الغابات والاحراج. كما اعتمد لبنان عام 2009 ّ إستراتيجية وطنية لإدارة حرائق الغابات من خلال القرار رقم 52 عام 2009.
نيران في مستقبل البيئة
ومن جهته، أشار مؤسس ورئيس "جمعية الأرض- لبنان"، والمنسق والمدرب في مجال التربية البيئية بول أبي راشد لـ "الديار"، الى أن "لبنان لم يشهد كوارث من ناحية حرائق الغابات هذا العام، ولا يمكن تقييم الوضع بعد، اذ ان الموسم الصيفي الحار لم يبدأ فعلياً"، مشددا على "أن المراقبة و التدخل السريع في حال نشوب أي حريق، يمنع امتداد الحرائق في الغابات، وعلى وزارة البيئة ملاحقة مفتعلي الحرائق، وتدرب البلديات وإصدار نشرات تحذير من خطر الحرائق"، مشيدا بما يقوم به الدفاع المدني الذي " يتصدر الفعاليات التي تكافح الحرائق ويقوم بكل واجباته". أما عن حراس الأحراج فقال : "ينتظرون تعيينهم منذ ٩ سنوات".
بدورها، اكدت الاخصائية في علم السموم وتلوث الهواء في الجامعة اللبنانية البروفيسور زينه داغر وهبه للديار، "ان الحرائق ليست مجرد نيران في الأشجار، إنها نيران في مستقبل البيئة اللبنانية"، واشارت الى "أن حرائق الغابات تطلق مزيجا كثيفا من الملوثات الهوائية، تشمل الجسيمات الدقيقة (PM₂.₅ )، ثاني أكسيد الكربون، المركبات العضوية المتطايرة (VOCs) واستنشاق هذه المواد، حتى بتركيزات منخفضة، خطرا خاصة على على الأطفال والمسنين، وذوي الحالات الصحية المزمنة، حيث تمتد التأثيرات الصحية الناتجة عن حرائق الغابات إلى ما هو أبعد من التعرض الفوري".
واكدت ان "البحوث الوبائية تظهر صلة وثيقة بين التعرض المزمن للملوثات الناتجة عن الحرائق، وزيادة معدلات الإصابة بالربو والأمراض السرطانية واضطرابات الحمل، وحتى الاضطرابات العصبية، كما أن الآثار النفسية المرتبطة بالكوارث البيئية ، من قلق وقلق بيئي مزمن eco-anxiety) ) أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العبء الصحي المرتبط بهذه الظواهر".
يذكر أن وزارة البيئة تطلق في كل عام الحملة الوطنية للوقاية والحد من حرائق الغابات، في الفترة الممتدة من 5 إلى 11 حزيران ، لرفع الوعي على المستوى الوطني حول أهمية الوقاية من حرائق الغابات وبهدف خفض المساحات المحترقة.
ظاهرة الاحتباس الحراري
وأشارت وهبة إلى "أن تأثير هذه الملوثات يتجاوز الحدود الجغرافية المباشرة، إذ يمكن أن تنتقل عبر الرياح لمسافات بعيدة، مما يؤدي إلى تدهور نوعية الهواء على المستوى الوطني، بل والإقليمي"، وأضافت "الغابات تشكل جزءا أساسيا من البنية البيئية المقاومة لتغير المناخ، فهي تعد من أهم المصارف الكربونية الطبيعية، إذ تمتص ثاني أكسيد الكربون،. فعند احتراق هذه الغابات، لا يقتصر الأثر على إطلاق الكربون المخزن فقط، بل يمتد ليشمل فقدان آلية طبيعية فعالة للتكيّف مع آثار التغير المناخي، مثل تنظيم الحرارة والرطوبة وحماية التربة من التآكل وتنقية الهواء والمياه".
ولفتت الى "ان الحرائق تشكل تهديدا مباشرا لمفهوم "الحلول القائمة على الطبيعة" Nature-Based Solutions"، المعترف به عالميا كعنصر أساسي في السياسات البيئية الحديثة، كما تسهم حرائق الغابات بشكل كبير في رفع البصمة الكربونية الوطنية، من خلال إطلاق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، الميثان (CH₄)، وأكسيد النيتروز (N₂O)، والتي تعد من أقوى غازات الدفيئة التي تؤثر على جودة الهواء والصحة العامة". وشددت على ان "هذه الانبعاثات تؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وتؤثر سلبا على النظم المناخية المحلية والإقليمية".
واشارت إلى أن "تراكم هذه الانبعاثات يضع لبنان أمام تحد إضافي في التزاماته المناخية، ويجعل من الضروري دمج سياسات الوقاية من الحرائق، وإعادة تأهيل الغابات ضمن الاستراتيجيات الوطنية للحد من التغير المناخي، فخسارة الغابات تعني خسارة مصارف كربونية طبيعية، ما يضاعف من الانبعاثات الصافية على المدى الطويل".
يذكر ان لبنان شهد في تشرين الأول 2019 إحدى أضخم موجات الحرائق، التي التهمت مساحات شاسعة من أحراج الشوف وإقليم الخروب وعكار، وقد تصدرت عبارة "لبنان يحترق" المشهد حينذاك، بسبب الدمار الكبير الذي حل بالثروة الحرجية، وخسر لبنان بين عامي 2019 و2024 أكثر من 21.000 هكتار من الغابات والمراعي والأراضي الزراعية بسبب الحرائق، وفقا لبرنامج الأراضي والموارد الطبيعية – معهد البيئة – جامعة البلمند.
وأشارت وهبه إلى "أن حرائق الغابات في لبنان ، في ضوء التزامات مؤتمر الأطراف حول المناخ conference of parties" "COP" بنسخته 15 و 28 ، تمثل نقطة تقاطع حرجة بين فقدان التنوع البيولوجي وتفاقم الأزمة المناخية، و التعامل معها يتطلب تحولًا في السياسات من رد الفعل إلى الوقاية، ومن المقاربة المحلية إلى التكامل مع الأطر العالمية".
يشار إلى أن مؤتمر الأطراف حول المناخ "conference of parties" "COP" هو تجمعات سنوية، تقام تحت إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وهي منصة رئيسية للدول للتفاوض بشأن العمل المناخي، ويهدف إلى حماية 30% من النظم البيئية البرية والبحرية بحلول عام 2030 (30×30)، واستعادة النظم البيئية المتدهورة، وتعزيز الحلول القائمة على الطبيعة (Nature-Based Solutions)
الحرائق من فعل الانسان
خسائر لبنان البيئيّة والزراعية كبيرة جراء الحرائق الطبيعية المرتبطة بالطقس والجفاف والتغيّر المناخي، لكن العدوان "الإسرائيلي" عمّق الأزمة البيئيّة، وزاد من خطر تحوُل الأراضي الصالحة للزراعة إلى أراض قاحلة، وقد وصف المجلس الوطني للبحوث العلمية CNRS ، في تقرير له أن ما تقوم به "اسرائيل" في الجنوب هو إبادة بيئية، لوصف أضرار القطاع البيئي في لبنان، مبيّنا أن "العدو الإسرائيلي عمد إلى جرائم بيئية وتحويل جنوب لبنان إلى محيط حيوي حربي بغية تعطيل الحياة فيه".
لبنان اليوم في سباق مع الزمن لإنقاذ ما تبقى من غاباته، فتكرار مشهد الحرائق في كل صيف يرسل رسالة واضحة. وإن لم نتحرك سريعا، سنفقد ما يميز لبنان عن سائر البلدان، وسيتحول "لبنان الأخضر" إلى "لبنان الرماد".
مديرة جمعية التحريح في لبنان الدكتورة مايا نعمة أشارت للديار إلى أن "حرائق الغابات في لبنان باكثريتها الساحقة هي من فعل الانسان، اما عمدا او من باب الخطأ، وأكثر مسبب للحرائق هو حرق المخلفات الزراعية ومخلفات التشحيل في الاحراج، التي يمكن الاستفادة منها عوض الحرق من خلال اعادة تدويرها للاسمدة والاتربة العضوية، كما أن المفرقعات النارية ونار التخييم تساهم بجزء من الحرائق، بينما يبقى قسما" كبيرا" منها متعمدا" بسبب المشاكل بين الافراد، او بغية استعمال الاراضي لاغراض اخرى".
وأضافت "تعمل الجمعية منذ تأسيسها على زيادة الوعي عند المجتمعات المحلية، التي تلعب دورا أساسيا في الوقاية من الحرائق، على اهمية حماية الثروة الحرجية من الحرائق والوقاية من خطرها"، وناشدت الجميع للعمل سوية "لتخفيف خطر الحريق، من خلال تغيير الممارسات والتصرف بمسؤولية تجاه ثروتنا الحرجية"، كما ناشدت الاجهزة الامنية "متابعة التعديات في الغابات، وتطبيق القوانين للتخفيف من التعديات والحرائق المفتعلة".
يشار إلى أن وزارة البيئة ومكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، وقعا الشهر الماضي اتفاقية في إطار مشروع "إدارة مخاطر حرائق الغابات بمشاركة المجتمع في المناطق المعرضة للخطر في لبنان" ، حيث تم تمويل المشروع عبر منحة قدرها 3.48 مليون دولار أميركي من صندوق البيئة العالمي، وتمت الموافقة عليه في تشرين الأول 2024، ويتم إدارة هذا المشروع من قبل البنك الدولي.