المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الثلاثاء 11 تشرين الثاني 2025 10:45:53
بخطابٍ محكومٍ بقلق الداخل وارتباك الإقليم، أعلن رئيسُ حزبِ الكتائبِ اللّبنانيّة النائب سامي الجميّل تقديمَ اقتراحِ تعديلٍ دستوريٍّ يهدف إلى إدخال مبدأ الحياد في مقدّمة الدستور. خطوةٌ أرادها الحزب "حسمًا لنقاشٍ عمرُه عقود" و"تثبيتًا لخيارٍ وطنيٍّ يحمي لبنان من صراعات المحاور". وبين مؤيّدٍ يرى في الحياد خشبةَ خلاص، ومعارضٍ يعتبره قفزةً في الفراغ، يعود السؤالُ المؤجَّلُ إلى واجهة الحياة السياسيّة: هل يستطيع لبنان، بتكوينِه ودورِه وجغرافيّتِه وحدودِه المفتوحةِ على أزماتِ الآخرين، أن يختار الحياد خيارًا دستوريًّا مُلزِمًا؟
مبادرةٌ بعباراتٍ واضحة: "لبنانُ دولةٌ حياديّة"
في مؤتمرٍ صحافيٍّ عقده في مجلس النواب بحضور عددٍ من النوّاب الموقّعين، قال الجميّل: "بعد عشرات السنين من النقاش حول هذا الموضوع، ومع شغفِ قسمٍ كبيرٍ من اللبنانيين بالعيش بأمانٍ وسلام، آن الأوان لتلبية مطلبٍ قديمٍ بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة، حفاظًا على استقراره وتجنيبِه دفعَ أثمانِ صراعات الآخرين كما جرت العادة في تاريخنا الحديث". وأضاف محدِّدًا نصَّ التعديل المقترح: "لبنانُ دولةٌ حياديّةٌ تلتزم مبدأَ الحياد في جميع الصراعات الإقليميّة والدوليّة، من دون أن يتعارض ذلك مع حقِّها المشروع في الدفاع عن سيادتِها وأرضِها، ومع التزاماتِها بالشرعيّة الدوليّة والقانونِ الدوليّ والإنسانيّ".
يُشدِّدُ الجميّل على أنّ الحياد "لا يعني التخلّي عن حقّ الدفاع عن النفس"، بل هو إطارٌ يَسمح ببناء "جيشٍ قويٍّ ومُجهَّزٍ على غرار الدول الحياديّة كسويسرا"، على أن يُترجَم داخليًّا وحدةً و"تحصينًا للسِّلم الأهلي" عبر قطع الطريق على أيِّ فريقٍ "لجرِّ لبنان إلى محاورَ أو تحالفاتٍ عسكريّة". وهو يُذكِّر بأنّ الحياد لا يُلغي دورَ لبنان الخارجي: "سنظلّ فاعلين في الأمم المتحدة والجامعة العربية ومدافعين عن القضايا العادلة". وفي ختام مؤتمرِه شكر النوّابَ العشرة الذين وقّعوا الاقتراح، داعيًا رئاسةَ الجمهوريّة ورئاسةَ الحكومة والكتلَ النيابيّة إلى تبنّيه "كمبادرةٍ لحماية لبنان وإعادةِ ترسيخِ موقعِه كدولةٍ سيّدةٍ حرّةٍ مستقلّةٍ وحياديّة".
من "إعلان بعبدا" إلى "الحياد الناشط"
ليست الدعوةُ إلى تحييد لبنان وليدةَ اليوم. فالمسار يمتدّ، كما تُشير الأدبيّاتُ السياسيّة والكنسيّة، من روحيّة "الميثاق الوطني" (1943)، مرورًا بـ"إعلان بعبدا" (2012)، وصولًا إلى طرحِ البطريرك الماروني بشارة الراعي في 17 آب 2020 لما سمّاه "مذكّرة لبنان والحياد الناشط". تلك المذكّرة وضعت ثلاثيّةً مترابطة: امتناعُ لبنان عن الدخول في أحلافٍ ومحاورَ وحروب، وامتناعُ الآخرين عن التدخّل في شؤونِه أو استخدامِ أراضيه، ثمّ تضامنُه المبدئيّ مع قضايا حقوق الإنسان وحُرّيّة الشعوب، وفي قلبِها القضيّةُ الفلسطينيّة وحلُّ ملفّ اللاجئين، بالتوازي مع تعزيز الدولة وجيشِها ومؤسّساتِها ومعالجةِ ملفاتِ الحدود مع إسرائيل وسوريا. على هذا الأساس، يرى مناصرون للمذكّرة أنّ الحياد ليس انسحابًا أخلاقيًّا من المواقف، بل "حيادٌ عن السلاح" و"انحيازٌ للقانون الدولي" وللقُدرةِ السياديّة على حماية الداخل.
فكريًّا، تَحضُر أطروحاتُ الديمقراطيّةِ التوافقيّة لدى أرند ليبهارت التي تعتبر الحيادَ ملائمًا لمجتمعاتٍ تعدّديّة مثل لبنان لأنّه يُخفّف أعباءَ القرارات الإشكاليّة على السلطة المركزيّة ويمنع الاستدعاءاتِ المتبادلةَ لقوى الخارج. لكنّ هذه الملاءمةَ النظريّةَ تصطدمُ بسؤالِ الدولة: لا حيادَ بلا دولةٍ قادرة، ولا دولةَ قادرةَ بلا احتكارٍ وحيدٍ ومشروعٍ للقوّة.
يشرح النصّ المرجعيّ المرافق للمبادرة أنّ الحياد في القانون الدوليّ تكرّس في معاهداتِ لاهاي (1907)، وأنّ تطبيقاتِه تتراوح بين حيادٍ دائمٍ، كسويسرا والنمسا، لا تنخرط معه الدولة في أيِّ حرب، وحيادٍ ظرفيٍّ، كقرارِ الأردن عام 1990 البقاءِ على الحياد في حرب العراق الأولى، وحيادٍ سياسيٍّ غيرِ مُثبَتٍ قانونًا كإيرلندا مثلًا. وقد يقترن الحيادُ بنزعِ السلاح، كما في كوستاريكا، أو بالإبقاء على جيشٍ دفاعيٍّ قويٍّ كما في سويسرا. والحقوقُ والواجباتُ في هذا السياق واضحة: حمايةُ أراضي الدولةِ المحايدة من الاستخدام العسكريّ، وحُرّيّةُ الدَّورةِ الاقتصاديّة شرطَ ألّا تُسخَّرَ لأهدافٍ حربيّة، والالتزامُ بالعدالة بين المتحاربين إذا قرّرت قيودًا على التوريد.
لبنان، في المقابل، مرتبطٌ بمعادلاتٍ وتعقيداتٍ جغرافيّةٍ وتاريخيّة: حدودٌ مُتفَلِّتة، وتهديداتٌ متكرّرة، ونزاعٌ مع إسرائيل، وخاصرةٌ سوريّةٌ مفتوحة، ونظامٌ داخليٌّ قائمٌ على موازينَ قوى طائفيّةٍ ومُسلَّحة. فهل يكفي النصّ الدستوريّ لنقل بلدٍ كهذا إلى نادي الدول الحياديّة؟
الردعُ بالسلاحِ استُنفِد… وقوّةُ الحيادِ في الدبلوماسيّة
يؤكّد معاون رئيس حزب الكتائب للشؤون السياسية والانتخابية سيرج داغر لـ"المدن" أنّ "هذا الطرح ليس جديدًا، بل بديهيٌّ وقد تحدّثنا فيه منذ زمن". ويضيف: "تبيّن للناس الذين كانوا يعتقدون أنّ السلاح يُوفّر الردع أنّه لم يُوفّرِ الردعَ فعلًا، إذ لم تكن هناك قوّةٌ رادعةٌ حقيقيّة… على لبنان أن يتوقّف عن الانخراط في صراعاتِ المحاور، فهذه ليست التجربة الأولى. حين طرحنا مبدأَ الحياد قبل أكثرَ من خمسينَ سنةٍ اتُّهِمنا بالانعزال… نحن نرى أنّ لبنان دولةٌ ضعيفة، تقع في مكانٍ مُعقّد، وهو بلدٌ تعدّديّ، وكلّما أقحمَ نفسَه في صراعاتِ المنطقة أحدث توتّراتٍ داخليّةً وعرّضَ نفسَه للمخاطر والحروب والدمار".
ويتابع داغر، واضعًا مقارنةً شائعة: "الحياد قوّةٌ لا ضعف. الدولُ المحايدة تمتلك جيوشًا قويّةً دفاعيّةً لا هجوميّة، وسويسرا مثال. أمّا مفهومُ الردعِ بالسلاح في لبنان فقد استُنفِد، وربّما حان الوقت لتفعيل الدبلوماسيّة ومفهومِ الحياد بوصفه أفضلَ حمايةٍ للدولةِ المدنيّة". وعن التوقيت، يرى أنّ المنطقة "مقبلةٌ على تغيّرات"، وأنّ الحديثَ عن مفاوضاتٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ يجعل اللحظةَ مناسبةً "للعودة إلى هذا المفهوم"، حيث "أفضلُ حمايةٍ للبنان هي قيامُ الدولةِ الحقّة".
وحين نَسأله عن تأثيرِ الحياد المقترح على سياسةِ العقوبات، خصوصًا مع مؤشّراتٍ إلى عقوباتٍ جديدةٍ مرتبطةٍ بـ"حزب الله" أو بتنفيذِ موجباتِ وقفِ الأعمالِ العدائيّة، أجاب: "الحياد ليس شعارًا عابرًا. ثمّةَ مسؤوليّاتٌ على الإسرائيليين كما على الحكومة في تبنّي هذا الطرح، لأنّه حمايةٌ للبنانيين من كلّ الاعتداءات، وخصوصًا الآتية من إسرائيل. لا أحد يُناقش أنّ إسرائيل دولةٌ معتدية. لكنّ الردّ ليس بمنطق القوّة الذي جُرِّب، بل بالحياد الذي يُجنّبُنا الاعتداءات ويُساعد على تنظيم الحدود وتحقيق مطالب الدولة، بل وحتى بعضِ مطالبِ 'حزب الله' كوقفِ الاعتداءات والانسحاب. الطريقُ ليس بتجميع الصواريخ، بل بتحييدِ لبنانَ عن الصراع". ويَختم بدعوةٍ مباشرة: "المسار يحتاجُ إلى أكثريّةٍ نيابيّة. فليتحمّلِ النوّابُ مسؤوليّاتهم".
أين يُوضَع الحياد وكيف يُغيِّر العقيدةَ الدفاعيّة؟
من جهته، يضعُ المحامي والخبيرُ الدستوريّ سعيد مالك للأمرِ خارطةَ طريقٍ قانونيّةً واضحة. يقول لـ"المدن": "إذا رغِبنا في تعديل الدستور لإيرادِ مبدأ الحياد فإنّ ذلك يَستوجب تعديلَ مقدّمةِ الدستور لبيانِ أنّ لبنان بلدٌ محايد لا ينتمي إلى أيِّ محور". ويضيف: "مبدأُ الحياد لا يتعارض مع النصوص أو الأعراف غيرِ المكتوبة كالميثاق، بل يُعَدُّ مُكمِّلًا لها… أمّا عقيدةُ الجيش فستتأثّرُ حُكمًا، وستغدو مُنسجِمةً مع مبدأ الحياد الذي سيدخل إلى الدستور".
ويُقِرّ مالك بخصوصيّةِ الحالةِ اللبنانيّة قياسًا على السوابق الدوليّة: "لكلِّ بلدٍ خصوصيّتُه… وقد يتطلّب الأمرُ تعديلَ بعضِ القوانين؛ تُراجَع هذه القوانينُ لبيان مدى توافقِها مع خيارِ الحياد". وعن موضعِ إدراجِ المبدأ، يحسم: "المقدّمة هي الموضعُ الطبيعيّ لأنّها تمنحُ لبنان توجّهَه الحقيقيَّ وخياراتِه، بعيدًا عن التجاذبات".
"حيادٌ على الورق" أم "تعطيلٌ لوظيفةِ الردع"؟
على الرغم من زخمِ الخطاب المؤيِّد، ثَمّةَ جبهةُ اعتراضٍ مُتَشعِّبة. في صُلبِها قوىً تعتبر أنّ "الحياد" في بيئةٍ إقليميّةٍ مُتفَلِّتة أقربُ إلى "الرغبةِ الحسنة" منه إلى السياسةِ الممكنة. يُجادِل هؤلاء بأنّ إسرائيل، التي "لا تزال تحتلّ أراضيَ لبنانيّةً وتَخترق الأجواءَ والبحر"، لن تلتزمَ حيادَ لبنان لأنّ ميزانَ القوى يسمحُ لها بانتهاكِه من دون أثمانٍ حقيقيّة. ويُضيفون أنّ لبنان، المُحاطَ بسوريا المأزومة وإسرائيل المُتحفِّزة ومسرحِ المنازعات الكبرى في شرقِ المتوسّط، "لا يملك ترفَ التعطيلِ الدفاعي"، وأنّ "الحماية" لا تتحقّقُ بنصٍّ دستوريٍّ بل بقدرةِ الردع الفعّال.
بعضُ الاعتراضات تذهبُ أبعد: الحيادُ المُقترَح قد يتحوّل، في الممارسة، إلى "تحييدٍ قَسريّ" لفريقٍ داخليٍّ يملك سلاحًا ويَمتلك روايةً مقاوميّةً مدعومةً شعبيًّا لدى جزءٍ من اللبنانيين. هؤلاء يُحذِّرون من أن يؤدّي إدخالُ مبدأ الحياد في الدستور إلى صدامٍ داخليٍّ حول ترجمتِه العمليّة، قبل الوصولِ إلى توافقٍ سياسيٍّ صُلب، وأن يصبح مجرّدَ "نصٍّ مُعلَّق" يزيدُ من اشتباكِ الشرعيّتَين: شرعيّةِ الدولة وشرعيّةِ "المقاومة". ثمّ إنّ خُصومَ المشروع يستعيدون معادلةَ "النأي بالنفس" كما اختبرَها لبنان في العقد الماضي: شعارٌ صادقُ النيّاتِ لكنّه سقطَ عند أوّلِ اختبارٍ حدوديٍّ أو إقليميّ، لأنّ توازنَ القوى الداخليَّ لم يسمحْ بتطبيقِه. بهذا المعنى، ليست المشكلةُ في النصوص، بل في الواقع الذي يفرضُ نفسَه على النصّ.
والمبادرةُ نفسُها تعترفُ بمرتكزين لا غِنى عنهما: موافقةُ اللبنانيّين بأكثريّتِهم على الحياد، وموافقةُ الدولِ المجاورة وقدرةُ لبنان الذاتيّة على حِمايتِه. هذا يقتضي، واقعيًّا، مسارًا مُتدرِّجًا يُوازِن بين الإصلاحِ الدستوريّ والتمكينِ المؤسّساتيّ: تعزيزُ الجيش وتجفيفُ الاقتصادِ الحربيّ، وضبطُ الحدود، واستعادةُ قرارِ السِّلمِ والحرب، وتحديثُ القضاء، وتنظيمُ العلاقةِ مع المجتمعِ الدوليّ على قاعدةِ التزاماتٍ واضحة. وهذه كلُّها ملفاتٌ ونِقاطٌ عالقةٌ حتّى اللحظة، وقد تكون سببًا في تصعيدٍ إسرائيليٍّ جديدٍ على لبنان.
والحالُ، فإنَّ حزبَ الكتائب فتح نافذةً سياسيّةً لا يمكن الاستهانةُ بها. أخرجَ النقاشَ من التمنّي إلى مسارٍ دستوريٍّ واضح، وقدّم صياغةً صريحةً تُحدِّدُ مقصِدَ الدولةِ وخياراتِها. في المقابل، لا يزال الطريقُ طويلًا ومليئًا بالألغامِ السياسيّةِ والواقعيّة: من موقفِ القوى المسلّحة داخل لبنان إلى مزاجِ الإقليم وموازينِ القوى على الحدود، ومن حاجةِ الاقتصاد إلى الاستقرار إلى قدرةِ المؤسّسات على فرضِ القانون.