الكيديات الطائفية والشخصية تهدّد الكونسرفتوار و"تحاصر" هبة قوّاس

قبل نحو سنتين، وفي خضم الأزمة المالية التي تعصف بلبنان، تخلّى المدير العام للكونسرفتوار الوطني بالإنابة الدكتور وليد مسلّم عن منصبه وبشكل أوضح هرب من الأزمة، قيل أنه عانى فقدان السيولة لصرف الرواتب وانجاز المشاريع، وقيل أيضاً أنه عانى من المحاصصة الطائفية، التي أبقته مديراً للكونسرفتوار بالتكليف، لأنّ المنصب هو من حصّة الأرثوذكس رغم أنّ مؤسّس الكونسرفتوار وديع صبرا كان بروتستانتيّاً، أحد القوانين ينصّ على تعيين العضو الأكبر سنّاً لرئاسة مجلس إدارة الكونسرفتوار، وهي كانت سترسو على السيّدة أمينة برّي، شقيقة الرئيس نبيه برّي، التي لم تبد حماستها للمنصب تاركة لوزير الثقافة محمد وسام المرتضى اختيار السوبرانو الدكتورة هبة القوّاس لهذه المسؤولية...

يومها كان تعيين هبة قواس مستغرباّ من الوزير المحسوب على "الثنائي"، فهي مسلمة وسنية في "موقع" مسيحي، وأيضا لها علاقتها القوية ببعض المؤسسات السعودية، وقد شنت عليها حملات لاسباب محض طائفية. يبدو أن التعيين لم يكن إلا لغاية في نفس يعقوب، سعى الوزير إلى الاستحواذ على المعهد الموسيقي وتوجهاته ونشاطاته، وتعيين من هنا وتدخل من هناك.الخ... استطاعت القوّاس، في زمن انهيار مؤسّسات الدولة وإفلاسها، أن تنجح في إعادة بناء الأوركسترا الفيلهارمونية، التي كانت قائمة على العازفين الأجانب، الذين يدرّسون أيضاً في المعهد. ومعظمهم تركوا البلد بسبب انهيار قيمة رواتبهم، التي كانت تُعتبر عالية. 

كذلك أعادت بناء الأوركسترا الشرقية العربية، التي تضم أيضاً عازفين أجانب ولبنانيين انهارت قيمة رواتبهم، وغادروا البلد. وبعدما كانت الأوركسترا تقدّم حفلاً أو اثنين أسبوعياً، بدأت تتزايد وتيرة حفلاتها أخيراً لتقترب من العدد القديم.

استطاعت القوّاس بالمساعدات التي أتت بها من الخارج أن تعيد بناء "الكونسرفتوار". وأبرمت اتفاقية مع مستشفى بعبدا الحكومي لتوفير الطبابة للعاملين والموظّفين. وأبرمت اتفاقيات تعاون مع دول كثيرة، أوروبية وعربية. وأعادت التدريس الحضوريّ في فروع المعهد الـ18، مع تحسين رواتب الأساتذة، بعدما تراجع الحضور بسبب انخفاض قيمة الرواتب.
 
لكن الكيديات الشخصية والطائفية والمصلحية بقيت في محلها، بقي "الجمر تحت الرماد"، يكتب الصحافي إيلي الحاج بأن المعترضين على قواس: "بعضُهم يغار من نجاحها، بعضهم طموح يريد المنصب لنفسه، وبعضهم ببساطة لا يريد العمل وفق القوانين الموضوعة، وبعضهم تبنّاه أخيراً وزير الثقافة محمد وسام المُرتضى وينفذ توجيهاته بصفته وزير الوصاية على الكونسرفتوار الوطني". 

استقال ثلاثة من أصل 6 أعضاء في مجلس إدارة المعهد، وهم: وليد مسلّم، وعبده منذر، ومريم غندور، فقد مجلس الإدارة نصابه. ثمّ أصدر الوزير بياناً رسمياً أعلن فيه "إلغاء قرار مديرة الكونسرفتوار بإجراء امتحانات مركزية في الفرع الرئيسي للمعهد في سنّ الفيل، وتجميد العمل بامتحانات الـ musique d’ensemble وامتحانات الآلات والنظريات الموسيقية ابتداء من السنة الرابعة لجميع طلاب المعهد، إلى حين إعادة انتظام العمل في مجلس الإدارة واتّخاذ القرارات المناسبة في هذا الصدد الأسبوع المقبل بعد انتهاء عطلة الأعياد"..

قرّر"تجميد مفاعيل جميع القرارات والدعوات التي اتُّخِذَتْ من قبل المكلّفة رئاسة مجلس الإدارة خلافاً للآليّة المذكورة أعلاه، أيّاً كان نوعها ومضمونها، لا سيما تلك التي تتعلّق بالتزامات من المعهد أو بصرف مبالغ"، مع الدعوة إلى "تنفيذ القرار فوراً وإلزام جميع العاملين في المعهد بالتقيّد به تحت طائلة ترتيب المسؤوليات القانونية، لا سيما الجزائية التي ينصّ عليها القانون"، عنونت جريدة "النهار": "محاولة متأخرة للمرتضى لضبط تفرّد القواس بالقرارات..لا تراجع عن الاستقالات الثلاث من الكونسرفتوار"!

يبدو أن علاقات هبة القواس وقدرتها، لم ترضِ الوزير الذي أيد قتل سلمان رشدي ويحب الهيمنة المباشرة على كل شيء في وزارته، والتدخل بأي شيء حتى انتخابات نقابة الزجل. كتب طارق الحميّد، ورئيس تحرير جريدة "الشرق الأوسط" السابق، على تويتر التالي: "وزير ثقافة عربي يقود حرباً طائفية ثقافية في وزارته، ويعادي كلّ صديق للمملكة، وإنجازه الوحيد هو إدخال الكتاب والموسيقى في الحرب الطائفية.. قد أضطرّ إلى الدخول في التفاصيل وبالأسماء". بالمختصر يبدو المشهد مخزيا في كواليس الكونسرفتوار، وبدل أن يذهب الوزير إلى ابتكار الحلول، فهو في خطابه يغذي الازمات والتفرقة والشقاق، تماما كما حصل في معرض بيروت للكتاب العربي الذي انقسمت إدارته، وانقسم المعرض، وفي طرابلس عاصمة ثقافية، بدا أن المشروع هو تسويق خطاب الوزير الذي يزايد على حزب الله في السياسة، وليس انجاز المشاريع الثقافية. 

في هذه الاجواء طالبت اللجنة الاستشارية لشؤون الأساتذة في المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفتوار ببيان وزير الثقافة أن يعيد النظر بقراره الصادر بتاريخ 15/6/2024، وأن يواكب ويدعم جهود رئيسة الكونسرفتوار الدكتورة هبة القواس، عبر اتخاذ الخطوات الآيلة إلى تعيين أعضاء جدد في مجلس إدارة الكونسرفتوار، يكونون قادرين على مواكبة مسيرة التحول فيه، وذلك لأجل مصلحة المعهد ولأجل أن يعود لبنان رائداً في الثقافة والإبداع في المنطقة العربية والعالم.

وجاء في البيان:
"إن الكونسرفتوار في لبنان، وبالرغم من نجاحاته التعليمية والأوركسترالية على مدى سنين طوال، كاد أن يصبح خارج المنظومة الثقافية والتربوية والفنية العالمية، بحسب برنامج الامم المتحدة التحولي الكبير والذي أصبح معتمداً مع بداية القرن الحادي والعشرين. هذا التحول العالمي الكبير انطلق في العام 2000 حين أصدرت منظمة الأمم المتحدة 17 هدفاً للتنمية المستدامة SDG’s كخارطة طريق لكافة المؤسسات على وجه الأرض.
إنفاذاً لهذه الأهداف العظيمة، خضعت كل المؤسسات في العالم لورشة تحوّلية داخلية ومواكبة لاتجاهات العصر الجديد. غير أن المعهد الوطني العالي للموسيقى – الكونسرفتوار عجز في الفترة السابقة عن صناعة مسيرته التحوّلية المطلوبة، ليس من الناحية الأكاديمية والتعليمية وحسب، بل أيضاً من الناحية الفنّية، بحيث كان المطلوب ان يكون على رأس الكونسرفتوار مجلس إدارة عالم بالتّوجه العصري، وأن يكون على راس هذا المجلس رئيس قادر على قيادة هذا المخاض التحوّلي في المعهد.
مع تكليف الدكتورة هبة القواس بإدارة الكونسرفتوار، بدأت ملامح التحوّل العالمي المطلوب بالظهور رغم وطأة الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان. إن هذه الملامح التحوّلية ظهرت في إعلان الدكتورة هبة القواس عن نيّتها تكوين Music Ecosystem تشكل اساسًا لبرنامجها الإنقاذي للكونسرفتوار تعيده فاعلاً في النظام العالمي.
خلال أقلّ من عام على إدارتها للكونسرفتوار، أطلقت الدكتورة هبة باقة من المشاريع الإنعاشيّة للمعهد، بدأ برفع رواتب العاملين من أساتذة وإداريين وأعضاء الأوركسترات إلى التجهيز الإنشائي لمباني المعهد بكل فروعه وصولاً الى زيادة رسوم الانتساب تحقيقًا للاكتفاء الذاتي كما ووضع المقررات الآيلة الترخيص لشهادات جامعية معترف بها بالتوازي مع تنشيط العروضات الفنّية العالية الإنتاج التي قدمتها أوركسترات المعهد الشرقية والغربية، ناهيك عن برامج العروضات الأدائية الجماعية الخاصة بالطلاب في كافة الفروع وذلك في حلقات ادائية لم يشهدها المعهد من قبل.
وفي السياق، فإن صعوبات كل تحوّل داخلي في أي من المؤسسات، له مخاضه لا سيما من قبل من يجهلون أهمية التطوّر أو من ليس لديهم المقدرة على اللحاق به، وهو ما أصاب كثيرين من العاملين في الكونسرفتوار من أساتذة وإداريين. وإن أكثر ما أثقل تقدّم مسيرة التحول هذه، كان وجود بعض من في مجلس إدارة المعهد ممن ليس لديه المقدرة على ادارة هكذا تحول صعب تتشابك فيه العناصر الفنية والعلمية والاقتصادية والديبلوماسية وفق ما أسمته مدرسة فرانكفورت "الأداء العقلاني". وبالتالي، فإن إسقاط هذا المسار سيُسقط البناء على الجميع.
لذا، فإننا نلتمس من جانب معالي وزير الثقافة، وباب ثقتنا بحرصه الأكيد على مصلحة الكونسرفتوار والعاملين فيه والطلاب المنتسبين إليه، أن يعيد النظر بقراره الصادر بتاريخ 15/6/2024 وذلك على ضوء روحيّة ومضمون الكتاب الحاضر، آملين من جانبه مواكبة ودعم جهود رئيسة الكونسرفتوار عبر اتخاذ الخطوات الآيلة إلى تعيين أعضاء جدد في مجلس إدارة الكونسرفتوار يكونون قادرين على مواكبة مسيرة التحول في الكونسرفتوار، هذه المسيرة الإنقاذية التي تقوم بها الدكتورة هبة القواس لأجل مصلحة المعهد ولأجل أن يعود لبنان رائداً في الثقافة والإبداع في المنطقة العربية والعالم".