المصدر: الديار
الكاتب: ربى أبو فاضل
الأحد 23 شباط 2025 08:36:18
طرقت الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019 أبواب معظم اللبنانيين، فمع ارتفاع سعر الصرف وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين توسعت دائرة الفقر وبات 70% من المواطنين يعانون من الفقر المدقع، بحسب الدولية للمعلومات، ووفق بيانات البنك الدولي، هذه الأزمة المستمرة إلى اليوم أجبرت أغلب المواطنين على التخلي عن الكثير من الأمور الأساسية في الحياة من ضمنها الثياب فحولتها إلى كماليات وسط هذا الانهيار الكبير.
لكن المواطن اللبناني مبدع وسباق في إيجاد الحلول لتخطي كل العقبات والمطبات بفعل السلطات السياسية الحاكمة في البلاد، فبدأت فكرة بيع الملابس "بالكيلو" التي بدأت بمتجر واحد، أما اليوم فيكاد لا يخلو شارع من محلات البالات التي تبيع بالكيلو أو الـ "أوتليت"، التي اجتاحت الأسواق، فقبل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان كان سوق "البالة" قد تراجع كثيراً لكن جاء الانهيار الكبير للقدرة الشرائية للبنانيين ليعيد لـ "البالة" مجدداً مكانتها خصوصاً داخل الأحياء الشعبية، الذي لم يعد لسكانه القدرة على تحمل الأسعار المرتفعة في المحلات التجارية.
الجدير باذكر أن ظاهرة أسواق البالة تعود إلى عام 1975 مع بداية الحرب المشؤومة في لبنان، حين كانت متاجر الألبسة المستعملة منتشرة حصرا في بعض المناطق الشعبية الاكثر فقرا، وتعتبر طرابلس من أقدم المدن اللبنانية في هذا المجال، فبالاتها منتشرة منذ خمسينيات القرن الماضي، أما اليوم فانتشارها بات أوسع.
الخجل من الوقوف أمام بسطات أو محال الملابس المستعملة بات أمرًا من الماضي وتمكن المواطن اللبناني من تخطيه فالجميع تقريبا يعاني الأزمة ذاتها، منهم الغني الباحث عن "ماركات" عالمية بأسعار أقل من ربع القيمة من مثيلاتها الجديدة، بالاضافة الى الفقير، الزبون القديم والدائم، الذي يفتش عن ملابس رخيصة ضمن امكاناته الضئيلة لستر فقره المستجد.
تبحث فئات واسعة من اللبنانيين عن الثياب المستعملة، فأحد موظفي القطاع العام يفضل شراء الثياب المستعملة "إذا كانت بحالة جيدة" بحسب قوله، مشيراً إلى أنه بسعر قطعة واحدة من السوق المحلي يستطيع أن يشتري أكثر من قطعة من ماركة معينة من سوق البالة التي تعتمد البيع بالكيلو وخصوصاً الصيفية منها، حال موظفي القطاع الخاص ليس بالأمر الافضل فليال، وهو اسم مستعار لموظفة في القطاع الخاص وأم لثلاثة أبناء تؤكد انه "لم يعد بمقدورنا التبضع من المحلات العادية و "المولات" الكبيرة، لدي ثلاثة أولاد وأولويات أخرى مثل دفع فواتير البيت والطبابة والغذاء وغيرها، وهنا أستطيع شراء قطَعًا كثيرة بمبلغ أقل وبجودة أكبر".
من جانبه أشار حنين وهو شاب بالثلاثين من العمر ويعمل بشركة خاصة ودخله جيد بحسب تعبيرة، إلى أنه يفضل شراء الثياب من الماركات العالمية من محالات البالة دون إنفاق الكثير من الاموال، مضيفاً " لماذا أدفع مبالغ كبيرة على القطعة ذاتها المتوافرة هنا فالعديد من القطع جيدة وبأسعار تنافسية".
بدوره قال محمد، وهو صاحب محل للبيع بالكيلو في منطقة زوق مصبح" البيع بالكيلو ظاهرة جديدة وهي وليدة الأزمة، حيث يتم شحن "مستوعبات" الثياب المستعملة من أوروبا في أكياس كبيرة، ويكون سعر الكيلو حسب سعر الشحن، النوعية والمصدر" مضيفاً "في السابق كان البعض يخجل من الدخول إلى المحل، لكن اليوم أصبح لدي زبائن من كل الطبقات الاجتماعية فالبالة لم تعد للطبقة الفقيرة".
من جهة أخرى يؤكد محمد أن الإقبال يتزايد كل يوم على شراء هذه الاكياس من قبل تجار صغار "يعربون" البضائع ويعيدون بيعها"، مشيراً الى أن بعض التجار يعمدون الى فتح الأكياس قبل بيعها، لتعريبها والحصول على الماركات العالمية، وبيعها بالمفرق بثمن أعلى".
أما من ناحية النظافة فأكد محمد قيامه بغسل الالبسة وتعقيمها قبل بيعها لتكون آمنة على اعتبار أن الملابس هي ناقل معروف للعديد من مسببات الأمراض إذا لم يتم تنظيفها قبل بيعها.
وفي هذا السياق تؤكد الدكتورة رنا الخوري، الى أن "بعض الملابس قد تحمل أكثر من خطر على صحة الإنسان إذ قد تسبب الفطريات التي ممكن أن تصيب الشعر والجلد وتتطلب علاجا طويلا، كما يمكن أن تحمل معها أنواع بكتيريا تسبب التهاباً بالجلد، قد تؤذي، بشكل خاص، من لديهم بعض الجروح في أجسادهم او يعانون من مشاكل بالدورة الدموية، وبالتالي إن تعرضهم لهذا النوع من البكتيريا قد يسبب التهاباً بالجلد وحتى العضل".
أما عن الأمراض الفيروسية فتقول الخوري "ممكن أن تحمل الثياب المستعملة معها الثآليل، أو "الهيربس"، أو جدرة المياه وفيروسات أخرى متناقلة جلديا ممكن أن تؤدي إلى طفرات جلدية وتتطلب علاجات طويلة للشفاء، وأخرى قد تبقى رغم الشفاء مثل الهيربس"، كما أشارت الخوري إلى المواد الحافظة الذي يرشها البائع للمحافظة على نوعية الثياب والتي يمكن أن تسبب الحساسية وتهيج البشرة، مضيفة أن "كل هذه المخاطر سببها طرق التوضيب والنقل والتعرض للرطوبة، وبالتالي من المهم جدا غسل الثياب قبل استعمالها، والتشديد على كيَها".
بات أمر شراء الملابس المستعملة هو الحل الوحيد المتاح لللبنانيين للتكيّف مع نمط جديد من الحياة، إلا أن لها تأثيراً في السوق التجاري المحلي وفي الشركات المستوردة للألبسة الجاهزة، وفي هذا الإطار يقول شوقي وهو صاحب محل للألبسة الجاهزة في منطقة الزلقا "نتفهم وضع الناس في ظل هذه الازمة الاقتصادية التي ارهقتهم وأرهقتنا أيضا فنحن من الناس، واليوم أمام هذا التوجه الكبير نحو البالة " الالبسة المستعملة" بتنى بلا عمل فأغلب التجار اضطروا إلى تقليص عدد موظفيهم، وبعضهم استغنى عن الجميع وبقي وحده في المحل"، ويشاطره الرأي خليل جاره وهو صاحب محل للالبسة الرجالية ويؤكد أن "هناك خوف كبير لدى غالبية التجار، فنسبة الاستيراد وصلت إلى الحضيض وحتى الانتاج المحلي بات أدنى من مستوياته في ظل انتشار سوق الالبسة المستعملة فما يقارب 50% من المحلات اغلقت"، مضيفا أن "الضرائب على البالات ضئيلة جدا مما يشجع الكثيرين على العمل بها".
في النهاية "البالة" حيث تجد كل شيء "من البابوج إلى الطربوش" كما يقال في لبنان، باتت الملاذ لشريحة كبيرة من اللبنانيين، وهو واقع اجتماعي جديد يعيشه هذا المواطن الرازح تحت وطأة الازمات التي سببتها السلطات الحاكمة في البلاد والمناكفات والكيدية السياسية التي أدت إلى عجز الدولة عن تأمين أبسط حقوق مواطنيها اليومية، لكن سيبقى المواطن اللبناني محتفظا بالأمل بعهد الرئيس الجديد العماد جوزاف عون وحكومته برئاسة القاضي نواف سلام لإخراجه من كل أزماته ويعود لبنان بمواطنيه إلى عهد الازدهار.