المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
السبت 26 تشرين الأول 2024 15:19:58
لم يطل التهجير الأحياء فقط؛ حتى الأموات حٌرموا من أن يحتضنهم تراب الأرض التي عاشوا عليها أو أوصوا لان يُدفنوا فيها عند الإستراحة الاخيرة.
في زمن السلم، كان لأهل الميت في المناطق الحدودية حرية اختيار مثواه الأخير، إذ يتبع ذلك تقاليدهم ووصية المتوفي. غير أن الواقع تغير مع اشتداد وتيرة العدوان على لبنان، حيث لم يعد دفن الموتى مسألة إرادة أو اختيار. في بداية الحرب منذ عام كان أهالي الميت النازحون يأخذون الإذن عبر قوات الطوارئ الدولية والجيش اللبناني لوقت محدود لمراسم الدفن في القرى الحدودية. لكن في ظل النزاع والعدوان الحاليين أصبح بعض الأهالي مضطرين لدفن أحبائهم خارج أراضيهم، ليس بإرادتهم. ولكن لأن الحرب مشتعلة، ومراسم الدفن تحتاج إلى هدوء وقف إطلاق النار. بمعنى آخر بات الدفن في أرض الأجداد يتطلب أمناً مفقوداً، وأصبح الوداع الأخير محكوماً بظروف الحرب القاسية.
"دفن الوديعة"
جالت "المدن" على بعض مراكز الإيواء والنازحين لتستمع إلى معاناتهم، حيث تتضمن قصصهم وصايا لم تتحقق وآمال محطمة. البعض دفن موتاه حيث نزح أو في مناطق قريبة بشكل نهائي، فيما البعض الآخر فضل دفن "الوديعة"، وذلك إلى حين توقف الحرب لدفن أحبائهم في أرض الأجداد. وهذه حال سميح مرعي الذي دفنته عائلته في زغرتا. مرعي (65 عاماً) من بلدة راميا الجنوبية، نزح مع عائلته إلى مركز إيواء في مدينة زغرتا شمالاً. بعد معاناة مع مرض السرطان توفي في أحد مستشفيات المنطقة، ونظمت له مراسم دفن الوديعة وذلك في انتظار نقله إلى قريته في انتظار أي هدنة عسكرية أو عندما تتوقف الحرب.
والد هيام (فضلت عدم الكشف عن كامل اسمها) النازحة إلى منطقة جزين فضلت دفن والدها في مسقط رأسه لتحقيق مبتغاه، لكن من دون مرافقة العائلة له. وهيام من مدينة صور نزحت مؤخراً إلى قضاء جزين وتقول: "نمنا واستيقظنا جميعاً، إلا أبي". وعندما طلبوا من الطبيب الكشف عليه، أخبرهم أن سبب الوفاة هو ضغط نفسي قوي وتعرضه لانهيار عصبي. وقالت: "إسرائيل لم تقتلنا بالصاروخ، قتلتنا قهراً".
تضيف هيام: "أبي عاش طوال حياته في صور، وكان من الصعب عليه مغادرتها. لم يستطع تحمل فكرة الابتعاد عنها، فاختار العودة إليها، حتى لو كان ذلك على شكل جثة عن عمر 65 عاما. حققنا رغبته وذلك من خلال نقله بواسطة الصليب الأحمر اللبناني إلى منطقة الزهراني. هناك استلمت كشافة الرسالة الجثمان لتتولى عملية الدفن في صور". لكن منعوا العائلة من مرافقة جثمانه بسبب الأوضاع الأمنية وتصاعد الضربات الإسرائيلية، مما زاد من وطأة الفراق والألم في قلوبهم.
دفن فوق جثتين
توفي أحمد يونس (80 سنة) من بعلبك قبل يومين في مركز اللعازرية في وسط بيروت. يونس، يعاني من بعض الأمراض المزمنة وشلل نصفي، نزح من بيته في الشياح، بسبب القصف، إلى مركز إيواء غير مؤهل لحالته الصحية. يقول حفيده محمد: "في الأيام الأخيرة من حياته، كان دائماً يقول لنا: "طلّعوني على الضيعة"، فكل شخص يتمنى أن يُدفن في قريته. اتصلنا بمختار الضيعة، فأخبرنا أن هناك أشخاصاً تحت الأنقاض ولا يستطيعون دفنهم، وطلب منا تدبير مكان له".
دفن يونس في حي السلم في بيروت بمساعدة كشافة الرسالة. "وُضع في قبر فوق جثتي شخصين لا نعرفهما"، يؤكد محمد ويضيف أنه "رغم ظروف الدفن القاسية لم ندفنه كوديعة، بل كان دفناً طبيعياً لأن الشرع يقول إنه لا يجوز نقله بعد دفنه".
أحمد، الذي عاش معظم حياته في بيروت، كان دائماً يعبّر عن رغبته في قضاء سنواته الأخيرة في قريته والعودة إليها حتى مماته، وفقاً لما قاله حفيده محمد الذي تحسر قائلا: "لم أستطع تحقيق رغبة جدي".
خذلان الأحبة
سكان المنطقة الجنوبية الحدودية محرومون من أن يعودوا إلى أرضهم أحياء وأموات. هذه حال زينب (75 عاماً) من بلدة بليدا. نزحت إلى بيروت عند ابنتها منذ بداية حرب إسناد غزة في 8 تشرين. تتحدث ابنتها، فاطمة، عنها وكيف كانت تعيش متصلة بأرضها وبالزراعة. كانت تحرص على العناية بكل شجرة ووردة. كانت زينب مثالاً للمرأة الجنوبية التي تجسد حب الأرض والتمسك بالوطن. رفضت مغادرة بليدا طوال حياتها، ولم تتركها إلا عندما أُجبرت على ذلك بسبب الحرب.
تقول فاطمة: "لطالما كنت أطلب منها أن تأتي لتقضي يومين عندي في بيروت، لكنها كانت ترفض بشدة، وتقول لي: "ما فيني اترك بيتي". كان لديها ارتباط عميق بأرضها وبذكرياتها هناك".
مع توسع العدوان وجدت زينب نفسها نازحة. تركت منزلها، محملةً بحزن شديد. بدأت صحتها تتراجع، وبعد مدة توفيت، تاركة خلفها بيتها وذكرياتها. لم تتمكن فاطمة من دفن والدتها في قريتها، بل دفنت في منطقة قصقص، مما زاد من شعور الذنب. فرحيل والدتها بهذه الطريقة عنى لها فقدان الهوية والانتماء، لا سيما أنها دفنت في تراب ليس التراب الذي احتضنها طوال حياتها. وتقول فاطمة: "أشعر أنني خذلتها، لم أتمكن من إعادتها إلى الأرض التي أحبتها والتي كانت تعني لها كل شيء".