النّزوح بين التفكّك الاجتماعي والاندماج... كيف يمكن أن يتفادى اللبنانيون التّوترات؟

يسود قلق بالغ أوساطاً سياسية لبنانية وخارجية من تداعيات موجات النزوح التي تسبّب بها القصف الإسرائيلي لمناطق واسعة جداً في جنوب لبنان وبقاعه والضاحية الجنوبية لبيروت، فبعد نزوح مئات آلاف اللبنانيين إلى مناطق أخرى، ثمّة تخوف من تفكّك اجتماعي يستتبع توترات أمنية، لجملة من الأسباب مرتبطة باختلاف البيئات السياسية والطائفية، والضغط المتزايد على البنى التحتية والاقتصاد.

لا تقديرات دقيقة لأعداد النازحين، وتختلف الأرقام بين جهة وأخرى، لكن ما بات مؤكداً أنها تُحصى بمئات الآلاف، وفي بعض التقديرات تتعدّى حافة المليون، ما يرسم صورة واضحة لجهة الاكتظاظ الحاصل في العديد من المناطق، والتي كانت أساساً تُعاني كثافة وجود نازحين سوريين، ما يُفاقم هذه المخاوف.

مضى على وجود النازحين في هذه المناطق شهرين، ووفق المشهد السياسي، لا وقف إطلاق نار في الأفق، والترجيحات تُشير إلى أن الحرب ستستمر أشهراً، ما يعني أن ظاهرة النزوح مستمرّة أيضاً، وكلما تقدّم الوقت تضاعفت الضغوط وظهرت الفروقات الاجتماعية وارتفعت احتمالات ظهور تشقّقات بنيوية بين المجتمع المقيم والآخر النازح.

يتحدّث مراقبون عن ظاهرة أساسية مرتبطة بالاختلاف السياسي والطائفي بين المقيمين والنازحين، ويوصّفون الواقع فيقولون إن النازحين بغالبيتهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وهم مناصرون لـ"حزب الله" وحركة "أمل"، فيما المقيمون، أو المجتمع المضيف، هم من الطوائف المسيحية والسنّية والدرزية التي تُعارض "حزب الله" عامةً وتحمّله مسؤولية الحرب، ما يُمكن أن يخلّف تنافراً.

يتطرّق الباحث والأستاذ الجامعي جهاد بنّوت إلى هذه النقطة. ويقول، في حديثه لـ"النهار"، إن النزوح الراهن يطال "أبناء طائفة واحدة"، لكنه لا يرى جواً عاماً سلبياً تجاه النازحين، ويستشهد بفتح البيوت والمدارس ومراكز الإيواء بـ"حماسة" في مختلف المناطق وعدم تبدّل المشهدية رغم مرور الوقت وارتفاع أعداد النازحين بعد توسّع رقعة القصف الإسرائيلي.

هذه المشهدية واقعية نسبياً، والإشكالات التي تحصل موضعية وأسبابها بمجملها شخصية أو سياسية مرتبطة بأفراد، فيما الأحزاب في المناطق المضيفة تعمل على تأمين بيئة سكن مستقرّة. وبرأي بنّوت، فإن الصراعات الداخلية فشلت في القضاء على "روح التضامن" بين اللبنانيين، حتى بالرغم من الاختلاف المذكور بشأن جدوى الحرب ومسؤولية المشاركين فيها.

العامل الاقتصادي يلعب دوراً أساسياً أيضاً في تحقيق استقرار نسبي، فالمجتمع المضيف يستفيد اقتصادياً من النازحين، أكان لجهة استئجار الشقق، أو تنشيط الحركة التجارية، لكن ثمّة مخاوف من أن يلعب هذا العامل دوراً معاكساً مع تقدّم الوقت في حال عدم قدرة العديد من النازحين على الاستمرار في دفع إيجار الشقق والاضطرار إلى الاستدانة لتأمين حاجياتهم.

رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط لا يتخوّف من حرب أهلية، ويركن إلى "الوعي" لدى الأحزاب التي اختبرت هذه الحرب في سبعينيات القرن الماضي وثمانياته. وفي هذا السياق، يرى بنّوت أن المشهد "يعكس وعياّ سياسياّ" عند المواطنين "يتقدم" على وعي السياسيين، وإن كان يُشير إلى "تصرفات فردية السلبية لم تؤثّر في حماسة استقبال النازحين".

إلّا أن المشهد الإيجابي العام لا يلغي وجود مشاهد تُثير القلق وتُنذر بتشقّقات اجتماعية محتملة. يعترف بنّوت بعدم القدرة على "فصل الصراعات السياسية والحزبية عن الواقع، خاصة أن المشهد الاجتماعي الداخلي لا يزال متأثراّ بالحرب الأهلية والأحداث التي شهدها لبنان منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري"، تُضاف إليها أحداث 7 أيّار.

لكن القلق الحقيقي الذي يسكن هاجس بعض السياسيين هو إطالة أمد الحرب وبدء تبدّل المزاج العام لدى المجتمع المقيم، مع زيادة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية واحتمال تفلّت الوضع الأمني، دون إغفال فرضية سعي إسرائيل ومخابراتها إلى بث مشاعر كراهية بين المقيمين والنازحين وتأجيج الفتنة من خلال أحداث أمنية مشبوهة.

بنّوت لا يُبدي قلقاً على المستوى الشعبي، لأن التقارب القسري الذي فرضته الحرب والأجواء الإيجابية بين المقيمين والنازحين قد يمنع نشوء أي صراع داخلي، لكنه لا يُخفي خوفه من احتمال مُحاولة بعض السياسيين في الداخل وبعض الجهات في الخارج السعي لإثارة الفتن، ويعتبر أن المسؤولية الكبيرة تقع على عاتق القيادات السياسية لعدم إثارة مشاعر تعاكس "الوحدة الوطنية".

هذه المسؤولية مشتركة بين أحزاب المجتمعات المضيفة والمجتمعات النازحة، تُضاف إليها مسؤولية أخرى على أحزاب المجتمع الآخر، أي "حزب الله" وحركة "أمل"، وهي الاستمرار بدعم النازحين مادياً لتفادي ظاهرة الفوارق الاجتماعية أو عدم قدرة النازحين على تحمّل تكاليف عيشهم، والاستمرار بتهدئة النفوس والابتعاد عن استفزاز المجتمعات المضيفة.

إلى ذلك، ينطلق المراقبون نحو فكرة تحقيق "الاندماج الاجتماعي" لا الدمج، مع مراعاة بعض الخصوصيات. وبرأيهم، كلما كان النازحون "مُفيدين" في البيئة التي يسكنون فيها، كلما تراجع منسوب التوتر بينهم وبين المقيمين، ومعنى الإفادة هنا يكمن في التحفيف من الضغط على الاقتصاد والبنية التحتية، ومُحاولة إفادة المجتمع المحلي دون التأثير عليه أو على مجتمعهم سلبياً كعارض جانبي.

حركة "أمل" تلقّفت خطر التشقّق الاجتماعي مع إطالة أمد الحرب، وعمد مكتب الشباب والرياضة فيها إلى جمع مختلف القطاعات الشبابية الحزبية، وعلى رأسها "القوات اللبنانية" و"حزب الله"، إلى جانب الحزب "التقدمي الاشتراكي" و"التيار الوطني الحر" وغيرهم، وكان بحث المجتمعين في اتخاذ خطوات من شأنها تطويق أي تفكّك مجتمعي محتمل في المناطق المضيفة.

مؤسسة "أديان"، بدورها، بدأت بالتحرّك لتلافي ظاهرة التشقّق الاجتماعي، وتكشف رئيسة المؤسسة نايلا طبارة الاستجابة من خلال العمل الإغاثي عبر تقديم الخدمات، ووضع برامج لمساعدة الأطفال في مراكز الإيواء تقوم على حصص للدعم النفسي الاجتماعي، تعريفهم بالتنوع الثقافي والديني الذي اكتشفوه لدى نزوحهم وإعدادهم للتعامل مع التنوع والاختلاف بشكل بنّاء، والتنبّه لأهمية حمايتهم جسدياً ومعنوياً.

وفي حديث لـ"النهار"، تُشير طبّارة إلى عمل المؤسسة على "تعزيز ثقة الأطفال بدورهم كمواطنين ومواطنات فاعلين أينما كانوا"، وتلفت إلى "إشراك شبكة القادة الدينيين المتعاونين مع المؤسسة ليدعموا جهود حماية حقوق الأطفال والنساء في مراكز الإيواء، وتدريبهم على مبادئ حماية الأطفال، حقوق الإنسان، حقوق الفئات المستضعفة، والدعم النفسي الاجتماعي".

في المحصّلة، فإن خطر التشقّق الاجتماعي كبير ويتفاقم مع تقدّم الوقت وغياب الحلول، لكن فرص تحقيق الاندماج الاجتماعي متوافرة وأساليب التطبيق موجودة والقابلية لدى الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني والمجتمعات المضيفة والنازحة أيضاً، وإذا نجحت المهمة، فإنها قد تكون قادرة على تفادي أجواء توترات سلبية تنعكس على السياسة والأمن.