النظرة السلبية للبنان مستمرّة وسط مؤشّرات سياسية وأمنية واقتصادية مقلقة

كتبت سابين عويس في النهار:

لم تخطئ وكالة "ستاندرد أند بورز" عندما وضعت في شباط الماضي تصنيفها للبنان بنظرة مستقبلية سلبية على المدى البعيد، إذ جاءت التطورات السياسية والأمنية وفشل السلطات في إرساء أي إجراء إصلاحي ليدفع المؤسسة إلى تثبيت تصنيفها الجديد السلبي. وقد عبّرت عن ذلك في تقريرها الأخير الصادر قبل يومين، الذي للمفارقة لم يستأثر بأي اهتمام رسمي، باستثناء عتب وامتعاض وزارة المال من اتهامها بالتقصير في توفير الأرقام والإحصاءات. وإن كانت ذريعة الوزارة الظروف في البلاد والنقص في الكوادر البشرية وغيرها، فإن ذريعة السلطة السياسية أن الأولوية اليوم تكمن في أمن الجنوب في ظل التهديدات الإسرائيلية.

لم يحمل تقرير الوكالة أي جديد لا من حيث الأرقام والتوقعات، ولا من حيث المخاوف من تطور الأمور سلباً، ذلك أن حال الشلل في العمل الحكومي والتشريعي، معطوفاً على انشغال الوسط السياسي بالأجندات الخاصة لا يترك مكاناً للنظر في مستقبل البلاد الاقتصادي والاجتماعي تحت ثقل انهيار متمادٍ منذ نصف عقد وغياب تام للمعالجات الجذرية.

من هنا، لم تتوقع الوكالة أي تقدم ملحوظ على صعيد الإصلاحات أو إعادة هيكلة الدين العام في المستقبل القريب، بعد تخلف لبنان عن سداد ديونه، مشيرة إلى أن البلاد لا تزال تحكمها إدارة تصريف أعمال بولاية محدودة، ولا سيما أن موقع الرئاسة لا يزال شاغراً منذ تشرين الأول 2022.

أمام المخاطر الأمنية التي تواجهها البلاد، تتزايد في رأي الوكالة المخاطر الجيوسياسية الإقليمية منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس في تشرين الأول 2023. لا تتوقع الوكالة صراعاً إقليمياً طويلاً وواسع النطاق. ولكن رغم ذلك، لا تزال المخاطر في رأيها مرتفعة بسبب المواجهة المستمرة بين إسرائيل و"حزب الله".

تتفهم الوكالة أن تستأنف الحكومة دفع متوجباتها الى المصرف المركزي على ديونها المقومة بالليرة، والتي كانت قد توقفت سابقاً عن خدمتها عام 2021، وأنها لا تزال مستمرة في المدفوعات الرئيسية والفوائد على التزامات الديون بالعملة المحلية. ولكن رغم ذلك، لا يزال خطر التخلف عن السداد على الديون التجارية المقوّمة بالعملة المحلية مرتفعاً، بسبب أوجه القصور في القدرة الإدارية للحكومة، وقدرتها المحدودة على زيادة الإيرادات، وعدم اليقين حيال عملية إعادة هيكلة الدين.

تحت عنوان فرعي "لُبْنان رأساً على عقب"، تقدم الوكالة سيناريو تراجع فيه التوقعات حول استقرار أو رفع تصنيف العملة المحلية. فالحكومة لا تزال متخلفة عن سداد التزاماتها بالعملات الأجنبية، بعدما أعلنت عام 2020 أنها ستوقف المدفوعات المتعلقة بسنداتها الأوروبية المقوّمة بالعملة الأجنبية، فيما لا تزال الإصلاحات لاستعادة الانتعاش الاقتصادي والخروج من التخلف عن السداد متوقفة بسبب البيئة السياسية والقدرة القانونية المحدودة لحكومة تصريف الأعمال على إحالة مشاريع القوانين، والتأخير في تعيين المسؤولين الرئيسيين، بما في ذلك رئيس جديد للبلاد وحاكم للمصرف المركزي.

لا تغفل الوكالة الإشارة إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مشيرة إلى أنه يجب على لبنان تنفيذ مجموعة من الإصلاحات كشرط مسبق لموافقة مجلس إدارة الصندوق على البرنامج الموسع. وتشمل الإصلاحات موافقة مجلس الوزراء على خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستراتيجية متوسطة الأجل لإعادة هيكلة الديون والمالية والموافقة البرلمانية على تشريع القوانين العالقة ولا سيما قانون السرية المصرفية، والتقييم الخارجي لأكبر 14 مصرفاً، ومراجعة وضع الأصول الأجنبية للمصرف المركزي، وتوحيد أسعار الصرف المتعددة في الاقتصاد. تتفهم الوكالة أنه تم تنفيذ مراجعة حسابات المصارف التجارية ووضع الأصول الأجنبية للمركزي واعتماد الأخير سعر صرف موحداً في وقت سابق من هذا العام، ظل أقرب إلى سعر السوق. ومع ذلك، لا يزال التقدم المحرز في القطاع المصرفي وإعادة هيكلة الديون محدوداً.

إضافة إلى الصعوبات الكبيرة التي واجهها لبنان على مدى السنوات الأربع الماضية، خلقت الآثار غير المباشرة للحرب بين إسرائيل وحماس توترات إقليمية وزادت من المخاطر الأمنية. كذلك تتبادل إسرائيل و"حزب الله" إطلاق النار على الحدود الجنوبية للبنان. وفي رأي الوكالة إن تهديد الصراع المباشر الأوسع بين البلدين لا يزال مرتفعاً بعد اغتيال إسرائيل أحد كبار قادة "حزب الله" في بيروت.

أما بالنسبة إلى التوقعات، فقد أشارت الوكالة إلى أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت 210% في 2024 بعدما كانت 160% في 2019، لكن الدين بالعملة الأجنبية ارتفع من 40% إلى 97%. كما أشارت إلى أن الحكومة كانت قد توقفت عن سداد فوائد الدين لمصرف لبنان في 2021، لكنها عادت إلى تسديد مدفوعات الفوائد لعام 2024 وأنها تنوي تسديد متأخرات 2021-2023 اعتباراً من عام 2025، ما يعني أن إنفاق الحكومة على الفوائد سيكون أكبر من 10% من إيرادات الحكومة في الفترة ما بين 2024-2027، وهذا الالتزام لا يُحتسب ضمن تصنيفات الوكالة التي تعتبر أن مصرف لبنان دائن غير تجاري.

وقدرت الوكالة قيمة احتياطات النقد الأجنبي، بما فيها الذهب، باستثناء سندات اليوروبوندز، بـ32.5 مليار دولار في 15 تموز 2024، مقابل 52 مليار دولار في نهاية عام 2017، مشيرة إلى أن الاحتياطيات القابلة للاستخدام ستبلغ 18 مليار دولار في نهاية 2024، رغم أنه لا يمكن استعمال الذهب من دون قانون يصدر عن المجلس النيابي. كما توقعت أن ينخفض التضخم بسبب معدلات الدولرة المرتفعة للغاية، واستقرار الليرة، علماً بأن التضخّم الأساسي كان مرتفعاً. لكنها حذرت من أن استمرار الوضع الحالي سيرفع قيمة الدولار مقابل الليرة إلى 151 ألف ليرة في 2027.

وبناءً على ذلك، توقعت أن ينكمش الاقتصاد اللبناني خلال الفترة 2024-2025 بمتوسط 1٪سنوياً، بسبب ضعف ثقة المستثمرين، والاضطرابات في النشاط التجاري، وتأثير اللاجئين داخلياً، وانخفاض تدفقات السياحة. كما أن الاستقرار الاجتماعي في البلاد لا يزال هشاً وسط التشرذم والفراغ السياسيين. ومع استمرار الاضطرابات السياسية والاقتصادية والانخفاض الحاد في قيمة الليرة منذ عام 2020، تقلص حجم الاقتصاد إلى ما يقدر بنحو 16 مليار دولار في عام 2023 من 53 مليار دولار في عام 2017.

لم تغفل الوكالة لفت النظر إلى غياب الإحصاءات والأرقام الدقيقة إذ لاحظت أن القيود الإدارية في القطاع العام وتعدد أسعار الصرف قد أدت إلى كشف محدود ونادر عن البيانات. لم تنشر الحكومة الناتج المحلي الإجمالي والبيانات المالية منذ عام 2022. وبالتالي، فإن التوقعات الواردة في هذا التقرير تخضع لعدم اليقين بشكل غير عادي، سيستمر في القريب.

وهذه الملاحظة دفعت وزارة المال إلى إصدار بيان تبرر فيه التقصير عبر تأكيدها أنه بالرغم من التحديات القائمة لناحية صعوبة نشر الأرقام، سعت الوزارة إلى تزويد الوكالة بالمعطيات المتوافرة على صعيد المالية العامة ووضعية الدين العام للإفساح في المجال أمامها للقيام بعملية التقييم بأفضل الظروف، الأمر الذي لم يحصل مع مؤسسة Fitch، مشيرة الى أنه الى جانب العوائق الإدارية من ناحية الإمكانيات البشرية والتكنولوجية التي تقلّصت لدى الوزارة إثر الأزمات الخانقة، فإن التقلبات الحادة في أسعار الصرف كما تعدد أسعار الصرف خلال الأعوام السابقة حالت دون قدرة الوزارة على نشر أرقام تعكس الواقع الحقيقي.

والمفارقة أن رد الوزارة جاء ليدينها أكثر مما يبرر تقصيرها، إن لجهة إصدار الإحصاءات والأرقام في إطار الحق العام في الاطلاع والوصول إلى المعلومات، أو لجهة الكشف عن تزويد الوكالة بالمعطيات، ما يؤكد أن تقييم الأخيرة وتوقعاتها مبنية على وقائع ويمكن بالتالي الأخذ بها بجدية!