الوضع الاقتصادي يزعزع الهيكل الاجتماعي والحلّ في نموٍ يؤمّنه إلغاء الاحتكارات

في بلدٍ تتراكم فيه الأزمات السياسيّة والاقتصادية، بات حلم الزواج بالنسبة للشباب اللبناني أقرب إلى رفاهية منه إلى خطوة طبيعيّة في مسار الحياة. فالأعباء الماليّة التي كانت سابقًا قابلة للتجاوز عبر القروض أو الادّخار، أصبحت اليوم شبه مستحيلة في ظلّ الانهيار المصرفي، وغياب القروض، وارتفاع تكاليف المعيشة بشكلٍ جنوني.

لعلّ أبرز ما يُعيق الشباب اليوم عن بناء مستقبل عائلي هو العجز عن تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار المالي، لا سيّما القدرة على شراء منزل أو حتى تأثيثه، وهي أمور كانت سابقًا مُمكنة عبر النظام المصرفي الذي توقّف عن أداء دوره.

الخبير الاقتصادي باتريك مارديني يُسلّط الضوء على جذور هذه الأزمة، مُوضحًا لـ "نداء الوطن"، أنّ "الزواج في لبنان كان يرتبط تاريخيًا بقدرة الشاب على شراء منزل. هذا الأمر أصبح اليوم شبه مستحيل بسبب الأزمة المصرفية، إذ كي يستطيع الشاب شراء منزل عليه الحصول على قرض من المصرف. حتى أنّ البعض كان يستحصل على قرض شخصي لتجهيز المنزل، ويقسّطه على المدى الطويل. ليس المطلوب من الشاب ادّخار ما يكفي لشراء أو تجهيز منزل بل أنْ يكون أقلّه قادرًا على الحصول على قرض على معاشاته المتوقعة في المستقبل، بشكل أنْ يقسّط من معاشاته المستقبلية ثمن ما اشتراه. هذا الأمر لم يعد متاحًا اليوم بسبب الأزمة المصرفيّة".

"معالجة الأزمة المصرفيّة"

ويشير مارديني إلى أنّ "هذا الأمر للأسف لن يُعالج إلّا من خلال معالجة الأزمة المصرفية، لأن المصارف غير قادرة اليوم على إعطاء القروض أكان بالليرة اللبنانية أمْ بالدولار الأميركي. صحيح أنّ بعض المصارف بدأت بإعطاء القروض لكن لديها مخاوف وتُحاول إيجاد "فتوى"، فهي تخشى إعطاء قرض بالدولار ومن ثمّ يُعيده المواطن بالشيك المصرفي بالدولار، لأنه بهذه الطريقة لا يكون المصرف قد استرجع أمواله. لهذا السبب، ليس باستطاعة المصارف إعطاء قروض، وبالتالي معالجة الأزمة المصرفية والسماح للمصارف بإعطاء قروض بالدولار الفريش واسترداد قروضها بالفريش دولار تعالج جزءًا من هذه المشكلة، لكنها ستسمح للشباب بالحصول على قرض للزواج، وتسديد هذا القرض على دفعات خلال السنوات المقبلة".

"الشق الثاني"

و "أمّا الشق الثاني فيتعلّق بدخل الفرد للشاب اللبناني المرتبط بالإنتاجية التي بدورها ترتبط بالنمو الاقتصادي. لكن بما أنّ النمو الاقتصادي في لبنان "مخنوق" فهو لا يمكنه أنْ يخلق دخلًا، وبالتالي لا يستطيع توزيع مداخيل على المواطنين كي يتمكنوا من الإنفاق والشراء وتأمين حاجياتهم. لذلك نحتاج لإعادة تنشيط النموّ وازدهاره مُجدّدًا. إلّا أن إطلاق النموّ يرتبط بالعديد من الأمور، وأهمها تفكيك الاحتكارات. باستطاعة اللبنانيين خلق شركات تُنتج وتُصدِّر وتُدخل دولارات وتُكبّر الاقتصاد وتوظّف برواتب مرتفعة، كي يتمكّن هؤلاء بدورهم من الزواج، لكن الوضع في لبنان لا يسمح بذلك. إذا أراد أي شخص تأسيس شركة تكنولوجيا وتوظيف مهندسين لبنانيين، فإنّ نوعية الإنترنت الرديئة لا تسمح بذلك، وبالتالي يعمل المهندسون أعمالًا أدنى من كفاءاتهم ويحصلون على رواتب أدنى من تلك التي يمكنهم تحصيلها فيما لو كانت هذه الفرص متاحة في لبنان. اليوم يجري الحديث عن السماح لـ "ستارلينك" بالعمل في لبنان. هذه الشركة يُمكنها أنْ تكون الحلّ لكل المهندسين، الذين يمكنهم العمل في لبنان بدل السفر إلى الخارج، وبدل أن يذهب المستثمرون إلى دبي وقطر ومصر وأميركا وأوروبا لفتح شركاتهم التكنولوجية، يؤسّسونها في لبنان، أسهل لهم، ويوظّفون مهندسين ويدفعون لهم رواتب مرتفعة، لأن العمل يحتاج إلى كفاءة عالية، وبالتالي فإن حلّ مشكلة الإنترنت وفتح المجال أمام شركات لمنافسة "أوجيرو" و "ألفا" و "تاتش"، كشركة ستارلينك مثلًا التي يمكنها أنْ تُعطي نوعية ممتازة وسرعة كبيرة في الإنترنت وبكلفة مقبولة، يسمحان باستقطاب استثمارات لها علاقة بالتكنولوجيا، من المغتربين وغيرهم"، وفق ما يُشير مارديني.

يُتابع: "الأمر نفسه ينطبق على قطاعات أخرى كالصناعة والزراعة والخدمات... وكل هذه متضرّرة بسبب الاحتكار، احتكار كهرباء لبنان يمنعنا مثلًا من الحصول على إنتاج جيد، ما يؤثر سلباً على قطاع الصناعة، وبالتالي يضطر الصناعي لتوظيف أشخاص بأجور زهيدة. الصناعات التي تحتاج إلى كمية كبيرة من الكهرباء ومتقدمة لا يمكنها أن تنشأ في لبنان لأن الكلفة مرتفعة، ولهذا يحاول وزير الطاقة حلّ هذه المشكلة عن طريق تعيين الهيئة الناظمة وتفكيك الاحتكار، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح. كما أن تعاقد وزير الاتصالات مع "ستارلينك" أيضًا خطوة في الاتجاه الصحيح. والأمر نفسه ينطبق على الزراعة التي تحتاج إلى ريّ والذي بدوره يحتاج إلى كهرباء، وأكبر تكلفة على المزارع هو المازوت. من دون ريّ لا يمكن إنتاج زراعة متقدمة، وبالتالي سيحصل المزارع على راتب زهيد. بينما إذا تأمّنت له الكهرباء يتحسّن الري ويرتفع مدخوله وتتحسّن قدرته الشرائية.

السياحة

يُردف مارديني: "كما أنّ الأمر ينطبق على السياحة. صحيح أنّ لبنان يستقطب السيّاح، لكنّ القسم الأكبر منهم لبنانيون مغتربون يزورون لبنان لرؤية الأهل والأقارب. لكن كي ينتعش هذا القطاع، يجب تفكيك احتكار طيران "الميدل إيست"، والسماح لشركات وطنية وأجنبية خاصة كي تنافس وتقدّم تذاكر سفر أرخص ونوعية أفضل، بشكل يكون أمام المواطن خيارات عدّة، لأن من شأن ذلك زيادة عدد السيّاح ومعها مداخيل المواطنين الذين يعملون في المطاعم والمقاهي، وبالتالي تزيد قدرتهم الشرائية ما يسمح لهم بالإقدام على الزواج. لذلك، فإن تفكيك الاحتكارات يطلق النموّ الاقتصادي ويسمح بزيادة المداخيل".

تفكيك الاحتكارات

يختم مارديني بالقول: "أما الأثر الثاني لتفكيك الاحتكارات، فهو أنّه لا يقدّم فقط مداخيل كبيرة للشباب تسمح لهم بالزواج، لكنه أيضًا يخفض كلفة المعيشة عليهم. احتكار الكهرباء مثلًا من قبل مؤسسة كهرباء لبنان أجبر المواطنين على شراء الكهرباء من المولّدات بكلفة مرتفعة. إذًا يدفع المواطن كلفة كهرباء باهظة، وكلّ الأكلاف في لبنان مرتفعة. وبالتالي تفكيك الاحتكارات يؤدّي إلى تخفيف وخفض الأكلاف الباهظة التي يدفعها المواطن على الكهرباء والمياه، بين اشتراك خاص ودولة. لكن في حال تم تفكيك الاحتكارات والسماح لشركات خاصة بتوليد الكهرباء والمياه والإنترنت، تنخفض كلفة المعيشة على المواطن، وبالتالي، لا تتحسّن فقط مداخيله لكن تنخفض الكلفة عليه، ويصبح مُرتاحًا أكثر في معيشته في لبنان ولا يُفتش على الهجرة والسفر".