الوفد الأوروبي سيضع لبنان في مأزق خانِق

«عيديَّة» الأوروبيين للبنان، في رأس السنة 2023، ليست بسيطة. بالمسار القضائي المتوقّع أن يطلقوه بعد 5 أيام، سيأخذون لبنان إلى زاوية يصعب الفرار منها. ربما انتظر البعض أن تأتي الضربة من الأميركيين، لكن المفاجأة هي أن الأوروبيين سيسبقونهم، ويمهّدون لهم الطريق.

لا هاجس لدى ذوي السلطة والمرجعيات المالية والسياسية في لبنان حالياً سوى التملُّص من المأزق الذي سيتسبب به وصول الوفد القضائي الأوروبي، في 9 كانون الثاني الجاري، حيث من المفترض ترتيب جلسات استماع بينه وبين مسؤولين رفيعي المستوى حاليين وسابقين في مصرف لبنان، وآخرين من أركان القطاع المصرفي.

الملفات موضع الاستجواب لا تتعلق بمسائل مالية ونقدية محض لبنانية. فما يهمُّ الوفد هو استجلاء الملابسات في جرائم جرت على أراضٍ أوروبية. وهذه هي الحجّة التي يتمسّك بها الوفد القضائي الثلاثي (من فرنسا والمانيا واللوكسمبورغ)، خصوصاً أن لبنان هو من الموقّعين في العام 2009 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2003)، وقبل ذلك، في العام 2005 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المُنظَّمة (2001)، وفي العام 1995 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الإتجار غير المشروع بالمخدرات (1988).

يعتبر ذوو السلطة في لبنان أن الآلية التي اتّبعها الأوروبيون في هذه المهمَّة ليست سليمة قانونياً. وإذا كان من حقّ القضاء الأوروبي أن يتقصّى الحقائق، في مسائل تعني الأمن المالي والاجتماعي الأوروبي، وأن تقوم بعثة منه بزيارة لبنان لهذه الغاية، فإنّ ذلك لا يخوِّله تجاوز صلاحيات القضاء اللبناني وسيادته على الأراضي الوطنية.

فالقضاء اللبناني حصراً هو المولَج بتنسيق الخطوات التي يقوم بها الوفد الأوروبي، لجهة تنفيذ طلبات الوفد الزائر، وترتيب جلسات الاستماع وتحديد أمكنتها وتولّي إجراءها وإصدار أي مذكرة توقيف إذا استدعى الأمر ذلك. وقد يحضر الأوروبيون إذا وافق القضاء اللبناني على ذلك، لكن دورهم يقتصر على تَلقّي النتائج والتصرُّف على أساسها في بلدانهم لا في لبنان.

ما فعله الأوروبيون حتى الآن هو أنهم تقدَّموا بطلب خطي رسمي للحضور إلى لبنان، وحصلوا على الردِّ إيجاباً، لكن التفاصيل لم يجرِ الاتفاق عليها، ما يعني أن المشكلة واقعة حتماً إذا تمَّت الزيارة المقرَّر أن تدوم 12 يوماً.

ومن المؤكد أن الأوروبيين يعرفون مسبقاً أن مهمَّتهم ستتسبَّب بمشكلة كبيرة مع طاقم السلطة في لبنان. وإذا أصرّوا عليها، بلا تعديل، فهذا يعني أنهم قرَّروا الدخول في المواجهة، بكل أبعادها وتداعياتها القضائية والمالية والسياسية.

فعلى المستوى الإجرائي، ماذا لو تمنَّع بعض المعنيين عن الحضور أمام وفد المحققين، وعمدت دول الاتحاد الأوروبي إلى التعاطي معهم بوصفهم «معرقلين للعدالة»؟ أو ماذا لو استمع الوفد إلى بعض الأشخاص، وفي النتيجة أصدر الأوروبيون مذكرة بتوقيفه في بلدان الاتحاد؟

أو ماذا لو تعاطى الأوروبيون مع بعض المسؤولين والعاملين في قطاع المال باعتبارهم «فارّين من وجه العدالة»؟ وماذا لو تشعَّب التحقيق فشمل أشخاصاً آخرين، من داخل دائرة المال أو من دوائر السياسة والإدارة وسواهما؟

الجميع يعرف أن التبِعات ستكون خطيرة جداً على لبنان، إذ سيتعرض لحصار مالي خانق، لا يستطيع إطلاقاً تحمّله، ويذكّر بوضعية فنزويلا.

التفسير السياسي لما يجري هو أن الاتحاد الأوروبي، بهذه الخطوة، قرّر قصداً تجاوز الدولة اللبنانية، وتوجيه رسالة مفادها أنّ هذه الدولة التي أعطاها الأوروبيون - والفرنسيون خصوصاً - كل الفرَص لتنهض وتثبت حضورها، لم تعد موجودة، وبات الأمل مفقوداً في إنعاشها.

لقد عمل الفرنسيون طويلاً لدعم لبنان من خلال مؤتمرات باريس المتلاحقة، وآخرها «سيدر» في العام 2018. كما بذلوا كل جهدٍ لهذه الغاية، بعد ثورة 2019 ثم انفجار المرفأ 2020. لكن القوى اللبنانية أصرّت على معاكسة أي اتجاه إصلاحي. أما القوى التغييرية التي كان يقع عليها الرهان فأثبتت فشلها بعد انتخابات 2022.

واليوم، يبدو اللبنانيون عموماً وكأنهم تأقلموا مع الفساد واعتادوا غياب الدولة. وثمة مَن يقول إن المجتمع الدولي «أصيب بالتعب» من لبنان ومحاولات إنقاذه، فقرَّر اعتماد سياسة «التخلّي واللامبالاة» تجاهه، مع الحرص على منع تصدير الفساد من «البؤرة اللبنانية» إلى العالم.

ما يفعله الأوروبيون يوحي بانتقالهم من نهج المُسايرة التي اتبعوها حتى الآن مع لبنان، إلى سياسة أخرى أقرب إلى النهج الأميركي. فالأميركيون لطالما اختلفوا مع باريس بسبب اعتمادها سياسة أكثر ليونة في التعاطي مع طاقم السلطة اللبناني.

وهذا يرجّح اشتداد الطوق السياسي الدولي على لبنان ليصبح أكثر شمولية في المرحلة المقبلة. وإذا أصرَّ الوفد القضائي الأوروبي على تنفيذ مهمَّته كما هو مقرَّر حتى اليوم، فستبدأ الإشارات القضائية والمالية لهذا الحصار بالظهور بعد انتهاء هذه المهمَّة، وستكون تداعياتها كارثية على لبنان، خصوصاً إذا عمدت الإدارة الأميركية أيضاً إلى اللحاق بالأوروبيين في إجراءاتهم.