باخرة الموت: من ميناء "النيترات" إلى مرفأ الانفجار!

في سردية الانفجار الذي لم يزل صداه يتردّد من بيروت إلى العالم، تعود كلّ الخيوط، مهما تفرّعت، إلى تلك المادة القاتلة: "نيترات الأمونيوم"، التي حُشرت في عنابر المرفأ بصمتٍ وقصور. وإلى تلك الباخرة: "روسوس".

في 4 آب 2020، انفجرت المدينة، لكنّ القصة بدأت قبل سبع سنوات، يوم رست تلك السفينة المتهالكة في مرفأ بيروت، لا على جدول الرحلات، ولا على خرائط الملاحة… بل على مفترق فسادٍ، وإهمالٍ، وقراراتٍ مشبوهة.

الانطلاق: نيترات ومؤامرة

في خريف العام 2013، انطلقت باخرة "روسوس" من ميناء باتومي في جورجيا، محمّلة بنحو 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم، في طريقها المعلن إلى موزمبيق. لكنّ خلافات مالية حول رواتب الطاقم تسبّبت في توقّف السفينة، فغادر بحارتها الأصليون، وتم استقدام طاقم جديد بقيادة القبطان بوريس بروكوشيف.

ومع استحالة استكمال الرحلة كما خُطّط لها، بدأت شبكة القرارات بالتمدّد، وتحوّل مسار السفينة فجأة إلى لبنان.

من قناة السويس إلى بيروت

السفينة لم تكن قادرة على عبور قناة السويس بسبب نقص التمويل. وكانت الخطة البديلة تقضي بنقل معدّات إلى ميناء العقبة الأردني لصالح مشروع زلزالي لصالح وزارة الطاقة الأردنية. في 6 أيلول 2013، وقّع وزير الطاقة والمياه آنذاك جبران باسيل مذكرة باسم "المصلحة العامة"، موجّهة إلى المديرية العامة للجمارك، تنصّ على أنّ الطلب يُعتبر ضمانةً للضرائب والرسوم المرتبطة بإدخال موقت لآليات ومعدّات المسح الزلزالي الثنائي الأبعاد، العائدة لشركة "سبيكتروم"، مع تعليمات مباشرة بتسهيل وتسريع إدخال تلك المعدّات والآليات.

وهكذا، اعتُبر ذلك مسارًا قانونيًا لوصول المواد، رغم أنّ الباخرة لم تكن مدرجة على أي جدول ملاحي رسمي.

لكن خيار بيروت، تحول خطوة قاتلة في سلسلة تراكمات مميتة.

الرسو في بيروت: بداية النهاية

بتاريخ 22 تشرين الثاني 2013، رست السفينة "روسوس" في مرفأ بيروت. كانت متهالكة تقنيًا ومشبوهة لوجستيًا. وفي أثناء محاولة تحميل معدات إضافية لصالح المشروع الزلزالي، تعرّض هيكل السفينة لأضرار حالت دون إبحارها مجدّدًا.

القضاء اللبناني أصدر قرارًا يمنع مغادرتها، بعدما تقدّمت شركات محلية بدعاوى مالية ضدّها.

وفي غياب خطة بديلة، احتُجزت "روسوس" فعليًا في مرفأ بيروت لأشهر… ثمّ  لسنوات.

رغم رسالة تحذيرية في 21 شباط 2014 من رئيس شعبة مكافة المخدرات ومكافحة تبييض الأموال في الجمارك العقيد جوزف سكاف، حيث تمّت الإشارة الى أنّ الباخرة روسوس الراسية على الرصيف رقم 11 محمّلة بمادة نيترات الأمونيوم وهي مادة شديدة الخطورة تستخدم في صناعة المتفجرات وتشكّل خطرا على السلامة العامة، مقترحا على رئاسة دائرة المانيفست وضابطة بيروت الجمركية العمل مع السلطات الأمنية لإبعاد الباخرة الى كاسر الموج ووضعها تحت رقابة الأجهزة العاملة في المرفأ إذا أمكن.

من البحر إلى العنبر 12

من 20 إلى 24 تشرين الأول 2014، وبناء على مراسلات أمنية وقضائية متشابكة، تمّ نقل حمولة السفينة بالكامل إلى العنبر 12 في المرفأ.

من دون أي تدابير سلامة أو رقابة فعليّة، خُزّنت المواد في قلب العاصمة، تحت حماية ناقصة، وسط سلسلة مراسلات روتينية وتحذيرات بلا تنفيذ.

رغم تنبيهات جهات أمنية إلى خطورة التخزين، لم تُتّخذ خطوات فعلية للحماية، ولم تُكلّف أي جهة رسميًا بإزالة الخطر.

 

مصدر الكتاب من موقع beirutportexplosion.com

"روسوس": جثة سياسية في بطن المرفأ

تحوّلت السفينة التي لم تغادر المرفأ لأسباب متعدّدة، إلى جثة سياسية راقدة في قلبه.

حُجزت لأجل بضعة آلاف من الدولارات، لكن حُمّلت بآلاف الأطنان من المادة المتفجّرة، من دون حراسة، ولا متابعة، ولا حتى نيّة صادقة لإزالة الخطر.

الوزارات التي سهّلت مرور معدّات شركات خاصة أثبتت أنّ منطق الدولة غائب، وأنّ القرار السيادي يُستخدم أحيانًا كختم شخصي لمصالح ضيقة. وهذا بحدّ ذاته مدعاة ريبة وتساؤلات مشروعة: من كان يوقّع؟ ومن كان يمرّر؟ ومن كان يراقب؟

4 آب 2020: الصدمة المتوقعة

حين انفجرت بيروت، لم تكن مدينة مستهترة، بل كانت مخزون صراعات وسكوتًا متراكمًا.

أكثر من 200 ضحية، آلاف الجرحى، ودمار لم يُحصَ بالكامل حتى اليوم، فالشحنة التي لم تُنقل، انفجرت.

وفي لحظة، تحوّلت العاصمة إلى ساحة حرب، بلا عدو… سوى سلطة أهملت، وقرارات أُخذت بخفة، وسفينة منسية في عنبر رقم 12.

العدالة المؤجّلة

اليوم، ومع اقتراب الذكرى الخامسة لتلك المأساة، ينتظر اللبنانيون قرارًا وعد به المحقق العدليّ، قيل إنه سيصدر خلال الأشهر المقبلة، بحسب مصادر "نداء الوطن".

لكن حتى الآن، التحقيقات تقتصر على من له صلة بمواد النيترات منذ لحظة التخزين، ولم تشمل أولئك الذين وقّعوا على إذن دخول السفينة، أو مهّدوا الطريق أمامها.

الحقيقة لا تبدأ من العنبر رقم 12، بل من أول لحظة اقتربت فيها "روسوس" من بيروت، ومن كل من فتح لها الأبواب، ووقّع الغطاء، وأعطى الأوامر، وأسدل الستار على ما حصل، فالانفجار ليس مسؤولية الباخرة وحدها، ولا حتى الشركة التي جلبتها… بل أيضًا مسؤولية من سمح بوصولها، ومن أمر بإفراغ حمولتها المتفجرة، ومن خزّنها لجهات مجهولة معلومة لاستخدامها بمشاريعه الإقليميّة، ومن تواطأ بالصمت، أو شارك بالتوقيع، أو أسدل الستار على صفحات الحقيقة طيلة سبع سنوات.

انفجار مؤجّل

السفينة لم تكن سوى حلقة في سلسلة. لكن تلك السلسلة كانت مشبوكة بإرادات، وأسماء، وقرارات… فانفجرت، ومعها كلّ ما تبقى من الثقة بدولة تحمي شعبها.

لم تنفجر المدينة من تلقاء نفسها، بل من صمت متواطئ، وإهمال مزمن، وانفجار مؤجّل… بانتظار عدالة، يبدو أنها أيضًا لم تعد مؤجلة!