بالذكرى الأولى للاتفاق مع صندوق النقد: السلطة تختار الانهيار

في مثل هذا اليوم قبل عام أبرم لبنان اتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد الدولي، كخطوة أولى للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية والنقدية. أجمعت السلطة السياسية حينها على الالتزام ببرنامج شامل للإصلاح، بعد اعترافها بحجم الأزمة وأبعادها. أطلقت برنامج الإصلاح وتعهّدت بتنفيذه تمهيداً لإبرام اتفاق نهائي مع الصندوق والحصول على الدعم المالي.

اليوم 7 نيسان 2023، وبعد عام كامل، ما الذي أحرزه لبنان على مستوى الإصلاحات التي تعهّد بتنفيذها بالاتفاق المبدئي مع صندوق النقد؟ كيف سارت الأمور؟ وهل طوت السلطة ملف الصندوق ومعه الإصلاحات؟

برنامج 7 نيسان
للتذكير بالبرنامج الشامل للإصلاح الاقتصادي الذي تم الاجتماع حوله منذ عام، فقد استهدف إعادة بناء الاقتصاد، واستعادة الاستدامة المالية، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وإزالة العقبات أمام النمو المنشئ للوظائف، وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار. ولبلوغ تلك الأهداف وافقت السلطة السياسية آنذاك على توصيات صندوق النقد، وتعهّدت بتنفيذها خلال الأشهر الإثني عشر المنصرمة.

وتمثلت تلك التوصيات بموافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة البنوك، التي تقر مقدماً بالخسائر الكبيرة التي تكبدها القطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحد من الاستعانة بالموارد العامة.
- موافقة البرلمان على تشريع طارئ ملائم لتسوية الأوضاع المصرفية على النحو اللازم، لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة البنوك، والبدء في استعادة صحة القطاع المالي، وهو ما يعد عاملا جوهريا لدعم النمو.
- الشروع في تقييم أكبر 14 بنكاً، كل على حدة، بمساعدة خارجية، من خلال التوقيع على نطاق التكليف مع شركة دولية مرموقة.
- موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية، لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد، والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب. وكذلك الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
- الانتهاء من التدقيق ذي الغرض الخاص المتعلق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان، للبدء في تحسين شفافية هذه المؤسسة الرئيسية.
- موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين، وهو أمر ضروري لإعادة الديون إلى مستوى يمكن الاستمرار في تحمله، وإرساء مصداقية السياسات الاقتصادية، وخلق حيز مالي للإنفاق الإضافي على البنود الاجتماعية وإعادة الإعمار.
- موافقة البرلمان على موازنة 2022، للبدء في استعادة المساءلة المالية.

هذا حرفياً ما تم التوافق عليه، وهو ما لم يتم تنفيذ أي من بنوده، باستثناء بعض المحاولات التضليلية المتمثلة بإقرار تعديل قانون السرية المصرفية وإقرار قانون موازنة 2022.

ترسيخ الأزمة
توصيف صندوق النقد الدولي للأزمة منذ عام لم يختلف عن توصيفها اليوم، إلا من حيث زيادة التدهور وتعميق الانهيار. من الانكماش الاقتصادي الحاد إلى زيادة مستويات الفقر والبطالة والهجرة بشكل هائل، مروراً بزيادة العجوزات في المالية العامة والحسابات الخارجية، وهبوط قيمة العملة اللبنانية وفقدانها قيمتها بشكل شبه تام، بالإضافة إلى التضخم المفرط الذي تجاوز كل حدود وغياب شبكة الأمان الاجتماعي.. كل ذلك لم يستدع من السلطة المباشرة بأي إصلاحات.

لا بل عملت السلطة جاهدة على عرقلة البنود الإصلاحية المُتّفق عليها مع الصندوق منذ عام، وهو ما كشفه وأكده أيضاً وفد صندوق النقد في زيارته الأخيرة إلى لبنان. فلا تزال مسألة توزيع الخسائر موضع خلاف في البلد بين القطاع المصرفي وما يمثّل في السلطتين التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين جمهور المودعين. وباتت المواجهة علنية في المؤسسات الدستورية كما أمام المحاكم وفي الشوارع.

وتنسحب العراقيل على كافة البنود الإصلاحية. فالتدقيق بميزانية مصرف لبنان وتقييم وضع 14 مصرفاً لم ير النور حتى اللحظة. حتى البند اليتيم الذي تم إقراره في مجلس النواب وهو تعديل قانون السرية المصرفية، تبيّن أنه "مفخخ" بما يضمن عرقلة إعادة هيكلة المصارف ومنع التدقيق في ميزانياتها.

أما تشديد صندوق النقد على تنفيذ البنود الإصلاحية مع حماية صغار المودعين والحد من الاستعانة بالموارد العامة، فقد سلكت السلطة السياسية والنقدية المسار المعاكس تماماً، فصاغت الخطط الضامنة لتذويب الودائع الصغيرة. وهو ما ترجمه مصرف لبنان بتعماميمه 158 و161 وغيرها.

في المحصلة نجحت السلطة في لبنان بعرقلة البنود الإصلاحية ونسف الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، ودفعت البلد إلى فوهة بركان وصفها وفد الصندوق في زيارته الأخيرة بـ"المنعطف الخطير". ولم يخف الصندوق قلقه من سلوك السلطة في لبنان مسار العرقلة المتعمّدة الدافعة للانهيار الحتمي. وقد حسم بأن السلطة في لبنان لم تحرز تقدماً على مستوى تنفيذ رزمة الإصلاحات الاقتصاديّة الشاملة، محمّلاً المسؤولية للحكومة ومجلس النواب والمصرف المركزي، "الذين يفترض أن يبادروا معاً، بسرعة وحسم، إلى مقاربة مكامن الضعف المؤسساتيّة والبنيويّة لإعادة الاستقرار للاقتصاد اللبناني، وفتح الباب أمام التعافي القوي والمستدام".

خلال عام الإصلاحات الموعودة، اختارت السلطة في لبنان الانهيار الاقتصادي التام، على حساب مواطنيها ومرافقها وعملتها، في سبيل حماية مصالح زمرة من أصحاب السلطة السياسية والنقدية وشركائهم في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.