بداية "نهاية" زمن الصرّافين: أهلاً بكم في فنزويلا

كتب عماد الشدياق في اساس ميديا:

على مدى السنوات الثلاث الماضية ونيّف، تحوّل الصرّاف في لبنان إلى "نجم"، إلى مقصد أو "محجّة" يومية لكلّ المواطنين الذين يقصدونه لتصريف ما تيسّر من الدولارات إلى ليرة لبنانية من أجل دفع التزاماتهم اليومية من مأكل ومشرب ومحروقات، لكن يبدو أنّ هذا الدور سيصل إلى نهاياته.

بدأت تلك "المحجّة" تفقد وهجها شيئاً فشيئاً. فقد وُجّهت إليها أولى الضربات، ثمّ إلى مصرف لبنان لأنّه الجهة التي تشتري منهم الدولارات بشكل مستمرّ، يوم بدأت شركات المحروقات تستوفي بدل المازوت لزوم المولّدات الكهربائية بالدولار، وشرع أصحاب المولّدات بدورهم يقبضون فواتيرهم من المواطنين بالعملة الصعبة أيضاً. ويُقدّر مجموع هذه الفواتير اليوم بحسب الخبراء بنحو 1.5 مليار دولار.

سدّد وزير السياحة الضربة الثانية يوم سمح للفنادق والمطاعم بالتسعير بالدولار، فتحولت أغلب المرافق السياحية التي نلاحظها تعجّ بالروّاد إلى الدولار.

جاءت الضربة الثالثة في مرمى الصرّافين ومصرف لبنان بطبيعة الحال، من وزير الاقتصاد أمين سلام يوم أعلن بدء التسعير في السوبرماركت بالدولار الأميركي، وبدأ تطبيق ذلك خلال شهر شباط الفائت.

استطلع "أساس" إقبال الناس على دفع فواتيرهم بالدولار الأميركي في أكثر من سوبرماركت. في البداية أغلب الصناديق كانت تشير إلى أنّ بين كلّ 10 زبائن نحو 3 يدفعون فواتيرهم بالدولار (30%)، ثمّ تضخّم هذا الرقم اليوم إلى ما بين 5 و6 من أصل 10 زبائن، أي بين 50% و60% من مجموع الزبائن، وهو ما يعني أنّ نصف الفواتير في السوبرماركت (حجمها غير معروف) تذهب بالدولار الأميركي إلى جيوب مالكيها من دون الحاجة إلى تبديل الليرات باعتبار أنّ أغلب فواتير الاستيراد هي بالدولار أيضاً.

هذه الدولارات حُرم منها قطاع الصرّافين، وهم بدورهم حرموا مصرف لبنان من الحصول عليها. ومن المؤكّد أنّ هذا المعطى الجديد أدّى إلى ارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة، إذ ارتفع من 1,500 ليرة بداية الأزمة إلى نحو 45 ألفاً نهاية العام 2022، ثمّ مع بداية العام الحالي ارتفع الدولار من 45 ألفاً إلى 112 ألفاً في غضون 3 أشهر.

تجلّى ذلك في عدم قدرة المصرف المركزي على الوفاء بالتزاماته تجاه المستفيدين من "صيرفة"، حيث ما زالت ليراتهم عالقة إلى اليوم في المصارف، التي تقول إنّ مصرف لبنان لا يزوّدها بالدولارات اللازمة لإتمام العمليات، وهذا طبعاً نتيجة شحّ دولارات "المركزي".

تتوالى الضربات على ما يبدو. فعلى غرار السوبرماركت، بدأت نقابة الصيادلة تطالب بدولرة أسعار الأدوية، وهذا يعني أنّ سوق الصرّافين سيفقد حصة وازنة أيضاً من نحو 500 مليون دولار هي فاتورة الأدوية اليوم، بعدما تراجع إلى ما يزيد على النصف (كانت 1.2 مليار دولار سنوياً).

المطلب نفسه، تحوم حوله محطات الوقود، التي تطالب وزارة الطاقة بالدولرة تماماً (الوزير ما زال يرفض هذا المطلب بحسب المعلومات)، وإعفائها من "بدعة" التسعير بمعدّل مرّتين في اليوم الواحد. وهذا يعني الالتزام بسعر "السوق السوداء" مباشرة، وبذلك يشتري المواطنون البنزين من المحطات بالدولار، من دون معرفة النسبة التي ستصل إليها، لكنّها ستتقدّم أيضاً على حساب الليرة (فاتورة البنزين اليومية بحدود 6 ملايين دولار).

أمّا الضربة الأخيرة، وربّما القاضية، فستكون على يد موظفي وعمال القطاع الخاص. هؤلاء بدورهم (أو ما بقي منهم) سيطالبون مستقبلاً بدفع رواتبهم بالدولار الأميركي، على قاعدة "من سوّاك بنفسه ما ظلمك"، لأنّ أرباب أعمالهم يقبضون من الزبائن بالدولار. وقد فتح إتحاد نقابات موظفي المطاعم والفنادق هذا الباب أمس، بتحديد الحدّ الأدنى لأجور موظفي المطاعم، بحسب الرتبة، وكلّها مجدولة بالدولار أيضاً.

هذا السيناريو بخطواته كلّها سيؤدّي تباعاً إلى تقهقر دور الصرافين وربّما أفوله. إذ لن يعود لهؤلاء عمل ما دام المواطنون سيتقاضون رواتبهم بالدولار ويشترون به أغلب حاجياتهم. ستقتصر وظيفتهم، كما كانت في السابق، على تبديل العملات الصعبة وقليل من الدولارات من أجل أن يدفع المواطنون ضرائب الدولة. وسيتراجع بطبيعة الحال عدد المضاربين والمنتفعين اللاهثين خلف التربّح على ظهور الناس.

سيفقد المواطنون حماستهم السابقة لمتابعة أخبار سعر الصرف، الذي سيتحوّل إلى مجرّد رقم يتغيّر على شاشات الهواتف والتطبيقات من دون أيّ جدوى (يحصل بالفعل أن الناس لا تتابعه الآن)، لكنّه حتماً سيرتفع بشكل جنوني نتيجة سعي مصرف لبنان المتواصل إلى تغذية خزائنه بالعملة الصعبة، من خلال تقديم أقصى ما يمكن من الإغراءات من أجل جمع الدولارات، التي ستشحّ من جوارير الصرّافين نتيجة السيناريوهات المتلاحقة أعلاه، وستقتصر الدولارات فقط على ما يملكونه من رساميلهم، التي لن يفرّطوا بها على الإطلاق.

عندها سيعجز المصرف المركزي عن دفع رواتب قرابة 230 ألف موظف في القطاع العام بالدولار عبر "صيرفة"، وربّما يطالبون هم أيضاً بدورهم بالدولرة، وقد بدأوا بالمطالبة بذلك فعلاً. تستثنى من ذلك قوى الجيش اللبناني التي تعدّ أكثر من 50 ألفاً، ويتقاضى كلّ فرد منها 100 دولار بفضل المساعدات الأميركية والقطرية.

بذلك ستفقد "صيرفة" وظيفتها كلّياً انطلاقاً من القاعدة القائلة: لا دولارات لدى الصرّافين يعني لا دولارات لدى مصرف لبنان.

ربّما يلجأ المركزي بعد ذلك إلى خيار آخر، خيار جنونيّ يقضي بدفع رواتب من بقي في القطاع العام بالليرة اللبنانية، أي إلى ضخّ 3.3 تريليونات ليرة أو ربّما أقلّ بقليل في حسابات هؤلاء الموظّفين عبر المصارف.

بعدها لن يتمكّن مصرف لبنان من ضبط سعر الصرف، إذ سنراه، ولن نكترث، يرتفع يومياً بشكل مطّرد وبعشرات الآلاف، ربّما وصولاً إلى مليون نتيجة طباعة المزيد من الليرات من فئة 100 ألف أو حتى مليون ليرة وفق ما يُحكى اليوم. وعندها يمكن القول بكلّ ثقة: أهلاً بكم في فنزويلا.