بطريرك لبنان الكبير...على طريق القداسة

صوّت مجلس الكرادلة بالإجماع اليوم، على دعوى تكريم خادم الله البطريرك الياس الحويك.

ويعتبر البطريرك إلياس الحويك، وهو مؤسّس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة اللبنانيّة المارونيّات، من النخبة المميّزة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر ومن تاريخ الكنيسة المارونيّة نظرًا إلى الأعمال البارزة التي حقّقها على صعيد الوطن والكنيسة، وهو من الأحبار الذين برزت أسماؤهم ساطعة في تاريخ الكنيسة المارونيّة، ذلك لأنّه وضع كلّ طاقاته الماديّة والمعنويّة واللاهوتيّة في خدمتها. كما يعتبر شخصيّة وطنيّة بامتياز، إذ برزت عظمته في الحقبة التي تولّى فيها مسؤوليّة السدّة البطريركيّة على أكمل وجه إذ انفتح بجديّة ومصداقيّة على كلّ مكوّنات الوطن ما جعله يحوّل بكركي إلى صرح وطنيّ تلتقي فيه الشخصيّات السياسيّة والروحيّة والوفود الشعبيّة التي اعتادت أن تؤمّ هذا الصرح في الظروف والأزمات المصيريّة، فيلاقون منه الترحيب والاحترام ولا عجب إذا قلنا إنّ المواقف التاريخيّة والوطنيّة التي أعلنها على الملأ قد خفّفت كثيرًا من وطأة المآسي التي عاش في ظلّها اللبنانيّون على مدى أكثر من عقدين من الزمن. خاصّةً وأنّه فتح أبواب بكركي لجميع المحتاجين الذين وجدوا لديه كلّ عطف وأبوّة وحنان. وعندما ضربت المجاعة لبنان في الحرب العالميّة الأولى وذهب ضحيّتها عشرات الألوف من اللبنانيّين، عمد هذا الرجل الكبير إلى إقامة أفران يوزّع عليها الطحين مجانًا لمساعدة الجياع والمرضى والعاجزين.

هو البطريرك الماروني الثاني والسبعون. امتدت حبريته من 1899 وحتى 1931. ولد الياس الحويّك في أواخر كانون الأول 1843 في قرية حلتا- قضاء البترون. والده الخوري بطرس الحويّك ووالدته غرّة طنوس الحويّك، وهو بكر أولادهما السبعة.

أ - مولده ونشأته

ولد في بلدة حلتا - قضاء البترون العام 1843، والعام 1851 دخل مدرسة يوحنّا مارون في كفرحي - قضاء البترون أيضًا. والعام 1859 دخل إكليريكيّة غزير، وظلّ يتابع دروسه فيها حتّى العام 1865 حيث أرسله البطريرك بولس مسعد لإكمال دروسه في روما في مدرسة نشر الإيمان المقدّس، وظلّ هناك حتّى العام 1870.

بعيد عودته إلى لبنان حاملًا شهادة الملفنة في اللاهوت، وبتنويه صادر عن رؤسائه، دوّن على لائحة الشرف إلى جانب اسمه باللغة اللاتينيّة: Juvenus ad maiora natus

أي "وفتى ولد للعظائم" وانصرف حالًا إلى ممارسة الوعظ والتبشير والرياضات الروحيّة.

ب - الحويّك كاهنًا

بعد عودته من روما درّس سنتين في مدرسة كفرحي، غارسًا في نفوس تلامذته التعبّد للعذراء. وفي العام 1870 تقبّل الدرجة الكهنوتيّة في 5 حزيران يوم عيد العنصرة، ولكنّ شهرته الواسعة المزيّنة بالقيم والفضائل المميّزة قد ترامت إلى مسامع البطريرك مسعد فعيّنه أمين سرّ للبطريركيّة، وعُيّن محاميًا لشؤون الزواج في المحكمة البطريركيّة طيلة 18 عامًا قضاها بالعمل بجديّة وتجرّد وأمانة.

ج - الحويّك مطرانًا

في 28 نيسان 1890 انتخب المطران يوحنّا الحاجّ بطريركًا فانتدب الحويّك ممثّلًا له لزيارة الأعتاب الرسوليّة ليحصل له على درع التثبيت. فمثل لدى البابا لاوون الثالث عشر الذي منحه بركته مثنيًا على تعلّق الكنيسة المارونيّة بروما. كما كلّفه بالقيام بالتفاوض مع المسؤولين هناك لإعادة فتح المدرسة المارونيّة في روما التي كان نابليون قد وضع يده عليها يوم دخل روما فاتحًا العام 1798، فأقفل مدرستها وباع أملاكها وشرّد تلامذتها. فنجح بمهمّته على أكمل وجه وأدخل البهجة في قلب البطريرك، وخاصّةً بعد أن حصل على 8 منح لطلّاب موارنة ليدرسوا في معهد سان سوليبس في باريس. وتمكّن أيضًا بفضل الاتّصالات الحثيثة والجادّة من تأسيس كنيسة سيّدة لبنان في باريس العام 1914 وهذا ما أعاد الروابط الجيّدة بين لبنان وفرنسا إلى سابق عهدها.

وتحقيقًا لهدف الحصول على 50 ألف فرنك لإعادة فتح المدرسة المارونيّة في روما، قام بجولة على المدن الفرنسيّة ثمّ توجّه إلى سويسرا لمقابلة الإمبراطور الفرنسيّ فرانسوا الأوّل، وفي طريق عودته إلى الوطن "عرّج على الأستانة ليشكر السلطان عبد الحميد على إعفائه البطريرك المارونيّ من فرمان الاعتراف بسلطاته البطريركيّة من السلطان العثمانيّ.

خدم الحويّك لبنان والكنيسة المارونيّة طيلة حياته، والحديث عنه يطول ويتشعّب حول أبعاد نشاطاته التي لا حدّ لها في الوطنيّة والسياسة والاجتماع والشؤون الكنسيّة والروحيّة والإنسانيّة.

د - الحويّك بطريركًا

توفّي البطريرك يوحنّا الحاج ليلة عيد الميلاد 1898، فعقد الأساقفة مجمعًا خاصًّا لانتخاب بطريرك جديد للطائفة، فانتُخب المطران إلياس الحويّك بطريركًا في الجلسة الأولى في 6 كانون الثاني 1899، وعلى الفور اختطّ لنفسه أسلوبًا إنسانيًّا وحازمًا في الوقت نفسه، ومن الأمور الجديدة التي اعتمدها لعهده: المائدة البطريركيّة المشتركة التي كانت معلمًا من معالم العيش المشترك الذي كان يرفع شعاره حيث كان يشترك فيها كلّ المتواجدين في الصرح من رجال دين وعلمانيّين، بمن فيهم الكبار والصغار. وشمل كلّ مرؤوسيه برعاية تجسّد العطف، والحنان، كما اهتمّ بممارسة الطقوس الدينيّة كالقداديس والصوم وتساعيّة الميلاد ورتبة الآلام ودرب الصليب. كما بذل عناية كبيرة لإقامة رياضات روحيّة للأساقفة والمطارين في الكرسيّ البطريركيّ، وخصّ العذراء مريم بتكريم خاصّ في صلواته ومظاهر عبادته لها، فكان يتلو يوميًّا مسبحة الورديّة ويشارك بإقامة زيّاحٍ لها، وأخذ ينسّق مع القاصد الرسوليّ لإقامة مذبح لها في حريصا. أبرز إنجازاته:

تشييد كنيسة المقرّ الصيفيّ العام 1903 حيث تحوّلت إلى قصر فيما بعد وسمّاه: "ذكرى جديدة قنّوبين" وجرّ إليه المياه الغزيرة من أراضي الدير حيث تحوّلت الأراضي البور القاحلة إلى حدائق وجنائن غنّاء.

توسيع أملاك بكركي واستصلاح الأراضي القاحلة فيها بعد أن جرّ إليها المياه من درعون فأصبحت مساحات خُضرًا خصبة.

إنفاق مبالغ طائلة لتزيين كنيسة الصرح في بكركي حيث تحوّلت إلى تحفة فنيّة وأصبحت من أعظم كنائس لبنان بفضل عمل ابن أخته الفنّان يوسف الحويّك.

تفقّده للأبرشيّات التابعة له في أثناء انتقاله إلى المقرّ الصيفيّ في الديمان أو بالعكس من الديمان إلى بكركي، إذ اعتاد أن يزور القرى التابعة له، ويطّلع على همومها ومشاكلها المختلفة وخاصّةً من الناحية الروحيّة، وكان يعمل على إيجاد حلول لها وللمشكلات الماديّة أيضًا.

إهتمامه بالمدرسة المارونيّة في روما كما مرّ معنا سابقًا .

إعطاؤه أهميّة خاصّة بموارنة الاغتراب وتتّبع أخبارهم. ومن هذا المنطلق أنشأ مطرانيّة في مصر بناءً على طلب الموارنة هناك.

الاهتمام بواقع الأبرشيّات في الداخل أيضًا، فبناءً على طلب رعايا مطرانيّة صيدا وصور أصدر أمرًا بقسمتها إلى مطرانيّتين مستقلّتين.

من أعماله الرسوليّة أيضًا بالإضافة إلى تأسيس أبرشيّة صور المارونيّة، تحرير الوكالات البطريركيّة في باريس والقدس ومصر، وأوفد مجموعات من المبشّرين إلى نواحي أفريقيا وأميركا حيث أشادوا الكنائس والملاجئ والمياتم والمصحّات، وعزّزوا الصحافة والجمعيّات الثقافيّة في قارّة أميركا.