بعد 20 عاماً... سقط الطاغية وبقي لـ "المحبة" صوت!

في ربيع لبنان الدامي، وسط أوج الحملات الإرهابية والاغتيالات المنظمة التي نفذها نظام الاحتلال السوري عام 2005، كان السادس من أيار يوماً عادياً في ظاهره، لكنه حمل في طيّاته رسالة دموية موجّهة ضد الحقيقة… ضد الإنسان. في ذلك المساء، دوّى انفجار داخل مبنى إذاعة "صوت المحبة"، ذاك الصوت النقيّ، الصادر من منبر مسيحي إنساني بامتياز، بعد ساعات من بثّ برنامج مباشر دعماً للمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. كانت محاولة إسكات جديدة من نظام عُرف بتصفية كل من يجرؤ على النطق بالحق. لكن هذه المحاولة لم تمرّ كما أرادها الجلّاد...

انفجار… وقيامة

في شهادته المؤثرة، يروي "الشهيد الحي" مهندس الصوت عبدو أبو جودة للمرة الأولى عبر الاعلام لـ "نداء الوطن" كيف تحوّل من مشغّل للبث المباشر إلى شاهد حي على جريمة موصوفة. عند الساعة 9:36 مساءً، وبينما كان ضمن دوامه الليلي، سقط استوديو الإذاعة فوق رأسه. ارتطم جسده بعمق يتجاوز الـ 15 متراً، وانهالت عليه الحجارة والركام، ومعها الألم والصمت.

لم تكن إصابته الجسدية عابرة، ففقرتان شُعرتا من عموده الفقري، وجروحات عدة حفرت ذكراها في يديه ورأسه. غير أن التجربة الأكثر عنفاً لم تكن جسدية، بل روحية: في ظلمة الركام، كان يهمس للعذراء مريم، وفي لحظة فارقة، شعر بروحه تُسحب منه. لكنه رفض الرحيل. تشبّث بالحياة، بالإيمان، بالرسالة، ورفض الموت. من بين الركام، انتصر على الظلام.

قالها بجرأة: "ما حصل معي كان معجزة إلهية". لم يكن صدفة أن ينجو، بل اختيار إلهي بأن يُكمل رسالته. واليوم، لا يزال عبدو يعمل في الإذاعة ذاتها، في المكان عينه الذي شهد المحاولة الفاشلة لإسكاته.

الهدف: إسكات الصوت الذي لا يموت

البرنامج الإذاعي الذي سبق الانفجار، لم يكن سياسياً، لم يهاجم أحداً، بل سلّط الضوء على ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. في حينها، كان الجميع يتهامس ولا يجرؤ على المواجهة. أما "صوت المحبة"، فاختارت أن تصرخ للحق، أن تكون لسان حال أهالي المفقودين، أن تترجم تعليم الإنجيل: "كنتُ سجيناً فزرتموني".

لكن الحقيقة، كما يعلم الجميع، موجعة. والنظام الذي اعتاد كتم أنفاس الشعوب، لم يحتمل صوت المحبة. لم يتوقع أن تأتي المواجهة من إذاعة مسيحية رعوية، لا تنتمي إلى أي تيار أو حزب، ولا تحمل سوى صليبها وقلبها. فكان القرار: التفجير.

المدير التنفيذي الأب شربل جعجع: الشهادة تحوّلت مسؤولية

حينها، كان الأب شربل جعجع م.ل. طالباً جامعياً، يتابع برامج الإذاعة بشغف. تأثّر بشدة حين سمع بالانفجار. واليوم، وقد أصبح المدير التنفيذي للإذاعة، يرى الحادثة من زاوية أخرى: ليست فقط ذكرى أليمة، بل تحوّل روحي ومؤسساتي.

يؤكّد جعجع لـ "نداء الوطن" أن استهداف الإذاعة لم يكن إلا نتيجة صرخة صدق أربكت النظام، وأنه منذ ذلك اليوم، تحوّل كل من ينتمي إلى "صوت المحبة" إلى شاهد حق، لا يمكن فصله عن تلك اللحظة الفاصلة. فـ "صوت المحبة" لم تُنشأ لتسكت، بل لتكون منبراً للمضطهدين، مساحة حرة في وطن اختنق مراراً بالوصاية والتبعية.

"نحن لا نموت"، يقول جعجع، "بل نقوم". من رحم الانفجار، ولدت الإذاعة من جديد، وبقيت شاهدة على أن الظلمة لا يمكن أن تطفئ النور، وأن المسيحي الذي يؤمن بالقيامة لا يخاف القبور.

رسالة تتخطى الطوائف والحدود

لم يكن لـ "صوت المحبة" جمهور طائفي أو حزبي. هي إذاعة تخاطب الضمير، تُصغي للصامتين، وتُترجم الصلاة إلى فعل. استقطبت مستمعين من مختلف الطوائف، وكانت بلسماً في زمن الجراح.

وحين انفجرت، لم يسقط صوتها، بل ارتفع أكثر. عاد البث خلال ساعات، في تحدٍ نادر للدمار. لم تُقفل الإذاعة أبوابها، ولم يخفت حماس العاملين فيها. كانوا يدركون أن الرسالة أكبر من الخوف، وأن الحق لا يُطفأ.

سقوط النظام… وقيامة المحبة

ما فعله نظام بشار الأسد آنذاك، لم يكن إلا فصلاً من سلسلة طويلة من الجرائم: اغتيالات، اعتقالات، تفجيرات وكمّ للأفواه. لكن المفارقة أن كل تلك الجرائم لم تُثمر سوى سقوط النظام نفسه، وانكشاف بشاعته أمام التاريخ.

يقول عبدو أبو جودة: "كنا نعتقد أن هذا النظام مهيب لا يُقهر… لكنه اندثر. هذا يعزّيني ويمنحني رجاءً عميقاً". وبين الشهادة والرجاء، تنسج "صوت المحبة" قصة صمودها.

في حضرة النور... لا مكان للظلام

أرادوا دفن "صوت المحبة"، فنبضت الإذاعة قيامة. حاولوا إسكاتها، فارتفع صوتها مدوّياً. أرادوا قتل الرسالة، فعمّدها التفجير بالصدق والصلابة.

وفي حديثه لـ "نداء الوطن"، يختصر المدير التنفيذي الأب شربل جعجع م.ل. الموقف قائلاً: "طبعاً أسامح، ومن دون تردّد، لأننا نقتدي بتعاليم سيّدنا يسوع المسيح"، متسائلاً: "ما هو الأقسى؟ أن لا تسامح وتُغلق المؤسسة؟ أم أن تسامح وتكمل المسيرة؟ أي الخيارين أكثر إزعاجاً؟ الهدف ليس الإزعاج، بل التذكير بأن لا شيء يمكنه إسكات صوت الحق". ثم يختم برسالة صارخة إلى النظام السوري: "بقيت صوت المحبة... وأنتم رحلتم!"

اليوم، وبعد مرور عشرين عاماً على التفجير، لم يبقَ من نظام القمع سوى رماد. أما "صوت" المحبة، فهو لا يزال يبثّ الحياة، يبثّ الغفران، الإيمان، العطاء والحقيقة. لأنه في النهاية، "أبواب الجحيم لن تقوى عليها".