بول كلوتز: «المنصّات الرقمية تنظّم العزلة لاحتكار الأرباح»

في مذكرة بحثية بعنوان «رأسمالية العزلة في مواجهة الروابط الإنسانية»، يسلّط الباحث الفرنسي بول كلوتز الضوء على ظاهرة الوحدة المتنامية في المجتمع المعاصر، محذرًا من استغلالها من قبل منصات رقمية كبرى مثل تيندر وتيك توك وأوبر إيتس. هذه الشركات، بحسبه، تبني نماذجها الاقتصادية على تعميق عزلة الأفراد، فيما تتحمّل الدولة الكلفة الاجتماعية والصحية لهذه الظاهرة.

عزلة متفاقمة في فرنسا

بحسب بيانات مؤسسة فرنسا لعام 2025، يعيش نحو 12% من الفرنسيين ممن تجاوزوا سن الخامسة عشرة في عزلة تامة أو شبه تامة، أي من دون أي تواصل اجتماعي مباشر تقريبًا. الرقم لم يكن يتجاوز 9% قبل 15 عامًا، ما يكشف عن منحى تصاعدي مقلق.

العزلة تطال بشكل خاص الشباب وذوي الدخل المحدود. ويوضح كلوتز: «كلما كان الإنسان أفقر، زادت احتمالات أن يعيش وحيدًا. نصف الأشخاص تقريبًا من ذوي الدخل الأدنى قالوا إنهم شعروا بالوحدة خلال الأسبوع الأخير، مقابل 15% فقط بين الميسورين». ويرى الباحث أن هذه الظاهرة ليست مجرد مسألة نفسية، بل «حلقة مفرغة تفاقم التفاوت الاجتماعي»، إذ إنها تحدّ من فرص التعليم والعمل والاندماج المجتمعي.

انهيار الفضاءات الجماعية

يُرجع كلوتز جزءًا من الأزمة إلى انهيار المؤسسات والفضاءات الاجتماعية التقليدية. ففي ستينيات القرن الماضي، كان في فرنسا نحو 200 ألف مقهى تشكّل فضاءات طبيعية للتواصل الاجتماعي، لكن عددها اليوم لا يتجاوز 40 ألفًا.

«الفراغ الذي تركته هذه المساحات ملأته ثقافة ليبرالية جديدة قائمة على التقييم الرقمي والمنافسة الفردية، بدل العلاقات الإنسانية المباشرة»، يقول الباحث. ويضيف أن هذا التحوّل أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وازدياد ما يسميه «أرشَفة المجتمع»، أي تفتته إلى جزر صغيرة ومعزولة.

اقتصاد العزلة: ربح خاص وكلفة عامة

يعتبر كلوتز أن المنصات الرقمية تنظّم العزلة بشكل ممنهج. فكلما بقي الأفراد في منازلهم، ازدادت قابليتهم لاستهلاك خدمات التوصيل، منصات البث أو تطبيقات المواعدة.
«مع أوبر إيتس أو دليفرو، يُغرق المستخدم بالإشعارات ليختار تناول وجبته وحيدًا بدل مشاركتها. ومع تيك توك وإنستغرام، يُدفع إلى مقارنة نفسه بالآخرين بلا توقف، ما يخلق إحباطًا جديدًا يضاعف من استخدام هذه التطبيقات»، يشرح كلوتز.

المفارقة، بحسبه، أن الأرباح تبقى خاصة بالشركات، فيما تتحمّل الدولة التكاليف. إذ تكشف دراسة هولندية أن العزلة تزيد نفقات الصحة النفسية العامة بنسبة 10%، وهو ما يعني بالنسبة لفرنسا ما لا يقل عن 2,7 مليار يورو سنويًا.

عزلة مفروضة وأخرى مختارة

يرى كلوتز أن العزلة ليست جديدة على الإنسانية. فقد ارتبطت لقرون بالتأمل الروحي والفلسفي، سواء في الديانات أو الفلسفة الرواقية. الجديد اليوم هو تحوّلها إلى «ظاهرة اجتماعية شاملة».

وعن ظاهرة «العزلة الطوعية» التي غذّتها ثقافة «نتفليكس آند تشيل»، يعتبرها الباحث موضة عابرة: «اليوم يتعامل الناس مع الإفراط في استهلاك المحتوى بوصفه مشكلة أكثر منه متعة».

في نظره، تؤكد معظم الدراسات أن الوحدة تُختبر كمعاناة في غالبية الحالات، إلا إذا كانت ثمرة خيار فلسفي أو روحي واعٍ.

مقارنة قاتلة عبر الشبكات

إحدى النقاط الجوهرية في تحليل كلوتز هي أن الشعور بالوحدة لا يرتبط بعدد العلاقات الحقيقية، بل بالمقارنة مع الآخرين. ويشرح: «الوحدة مثل المال: قد تملك ما يكفي، لكنك تشعر بالفقر إذا كنت محاطًا بأغنى منك. الشبكات الاجتماعية تصنع هذا الأثر بشكل يومي عبر عرض صور لحياة مثالية، وهو جوهر ما يُسمى "المؤثر"».

الحاجة إلى سياسة ثقافية جديدة

بالنسبة لكلوتز، لا يكفي تحميل الأفراد مسؤولية الإفراط في استخدام الشاشات، بل يجب مواجهة المنصات التي تنظّم الإدمان الرقمي. وهو يدعو إلى «سياسة ثقافية وسيادة رقمية» تضع قيودًا على الخدمات الرقمية التي تعمّق العزلة وتزيد من القلق والاستهلاك.