بيان حزب الله... تمرّدٌ مغطّى بالوطنية وتحدٍّ سافر للدولة

من يقرأ بيان حزب الله الأخير الموجّه إلى “الرؤساء الثلاثة” وإلى الشعب اللبناني، يظنّ للوهلة الأولى أنّه بيانٌ حريصٌ على الدولة والسيادة، فيما هو في جوهره إعلانٌ جديد لانفصال الحزب عن منطق الدولة ومؤسساتها، وتأكيدٌ على أنّ قرار الحرب والسلم في لبنان لا يزال مرهونًا ببندقية خارج الشرعية، تُقرّر وحدها متى يكون “العدوّ” ومتى تُفرض الهدنة.

يستهلّ الحزب بيانه بمخاطبة رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس والحكومة، وكأنه يضعهم أمام أمرٍ واقع: السلاح باقٍ، والمقاومة فوق الدولة.
يتحدّث عن حق مشروع في الدفاع خارج أي مرجعية دستورية، متجاهلاً أنّ القرار 1701 الذي يستشهد به، هو نفسه الذي يُلزم الدولة اللبنانية وحدها ببسط سلطتها جنوب الليطاني.
فأيّ منطق هذا الذي يرفض "حصرية السلاح" باسم السيادة، فيما السيادة الحقيقية لا تكون إلا بجيشٍ واحدٍ وسلطةٍ واحدةٍ وقرارٍ واحد؟
حين يقول الحزب إنّ موضوع حصرية السلاح لا يُبحث استجابة لطلب أجنبي، فهو يعترف ضمنًا بأنّ السلاح قضية تفاوض دولية، لكنه يحتكر حقّ البتّ فيها لنفسه، وكأنّ اللبنانيين مجرد تفصيل في معادلة إيرانية – إسرائيلية أكبر منه.

يتغنّى البيان بعبارات الوحدة الوطنية والموقف اللبناني الموحّد، فيما يُهاجم الحكومة لقرارها المتعلّق بحصرية السلاح، ويعتبره "خطيئة".

لكن الخطأ الحقيقي ليس في تمسّك الدولة بقرارها، بل في إصرار الحزب على مصادرة القرار الوطني واحتكار تعريف العدوّ والمصلحة العليا للدولة.

لبنان لا يُحمى بالانقسام، ولا تبنى السيادة على ازدواجية السلاح والولاء.

لقد جرّ الحزب البلاد إلى حروبٍ مدمّرة باسم "المقاومة" و"الكرامة"، وها هو اليوم يضع نفسه مجددًا فوق الدولة، رافضًا أي نقاش في استراتيجية دفاع وطنية حقيقية.

إذا كان العدوّ يستهدف كل لبنان كما يقول البيان، فلماذا لا يكون الجيش اللبناني وحده من يواجه هذا العدو، بدلاً من أن يحتكر الحزب شرف المواجهة وقرار التهدئة على هواه؟

البيان ليس سوى مناورة سياسية مسبقة، هدفها الالتفاف على موضوع التفاوض الذي طرحه الرئيس جوزاف عون، وإرسال رسالة ضغط إلى الحكومة والرأي العام بأنّ الحزب لن يقبل أي نقاش يمسّ بسلاحه.

هو بيان دفاعي في الشكل، لكنه هجومي في المضمون، أراد من خلاله الحزب التلطي خلف طائفته وتحصين موقعه المتراجع بعد تبدّل الموازين الداخلية والإقليمية، وارتفاع الأصوات المطالِبة بإعادة الاعتبار إلى الشرعية والمؤسسات.

لغة البيان تذكّر ببيانات عصر الممانعة، حين كان الحزب يضع "الثوابت" قبل الدولة، و"المقاومة" قبل الدستور، واليوم يعيد تكرار المعادلة نفسها بثوبٍ جديد، ظنًّا منه أنّ الظروف ما زالت كما كانت.

لبنان اليوم أمام مفترق حقيقي: إمّا أن يُستعاد القرار السيادي إلى مؤسسات الدولة، وإمّا أن يبقى رهينة بيانات فوقية تُصدرها جهة واحدة باسم الوطن كلّه.
فمن يتحدّث عن "حماية السيادة" لا يمكنه في الوقت نفسه أن ينصّب نفسه جيشًا ودولةً وحكمًا.

لقد ولّى زمن البيانات المموّهة بالشعارات، وبدأ زمن الحسم من يحكم لبنان؟ الدولة أم الحزب؟