المصدر: الأخبار
الكاتب: نقولا ناصيف
السبت 17 آب 2019 07:23:25
بين قصر بيت الدين والمختارة عداء يصعد الى التاريخ، وبين القصر مقراً صيفياً لرئاسة الجمهورية والمختارة سوء فهم تاريخي. ليس قليل الاهمية ان الجيرة بين هذين الصرحين تشكل اصعب قراءة لتاريخ جبل لبنان قبل لبنان الكبير، واضحت مذذاك الى اليوم مستحيلة
من المتعذر التفكير، الى الآن حتى، في تسوية بازاء قراءة مشتركة لكتابة تاريخ مرحلة امتدت عقوداً طويلة قبل الوصول بكثير الى عام 1920، بين مَن يعدّ نفسه الاصل في جبل لبنان الجنوبي ومَن انتزع الامارة. ما بين قصر بيت الدين والمختارة لا يروي قصة الصدام التاريخي القديم فحسب، بل يوحي بأن القصرين منذ عام 1945 على الاقل هما أسوأ جارين لبنانيين. منذ القرن التاسع عشر يقفان في عرض التاريخ.
في ايلول 1945 افتتح الرئيس بشارة الخوري تحويل قصر بيت الدين الى مقر صيفي للرئاسة بعد اعادة ترميمه، قبل أن يدرج من العام التالي، في آب 1946، على الاقامة فيه صيفاً. الا ان الشيخ بشارة الذي اعتاد ان يصيّف ايضاً في عاليه حتى يوم استقالته عام 1952، بكّر في اظهار المشكلة عندما تحدث عن «حمّالين على الكتف» كلما صيّف في القصر الرئاسي، وهو ما يرويه في «حقائق لبنانية»: الاول صاحب الكرسي المطران أوغسطين البستاني، والثاني صاحبة الدار نظيرة جنبلاط. كلاهما المطران والست ناوأا الكتلة الدستورية وانحازا الى الكتلة الوطنية.
على شرفة بيت الدين، في اليوم الثالث لانتخابه رئيساً للجمهورية في 26 ايلول 1952، اختلف الرئيس كميل شمعون مع حليفه كمال جنبلاط للمرة الاولى، ايذاناً بالافتراق. دعا شمعون جنبلاط وزوجته مَي الى عشاء عائلي في المقرّ الصيفي للرئاسة. بعد العشاء، العاشرة ليلاً، اختليا على شرفة القصر ساعات قبل أن يلتحقا بزوجتيهما في الثالثة فجراً. لدى مغادرته بدت امارات الانزعاج والاستياء على وجه الزعيم الدرزي وطبعت البرودة نبرته بعد عشاء بدأ مرحاً. سألت زلفا شمعون زوجها الرئيس عن سبب عدم ارتياح حليفه في «الجبهة الاشتراكية الوطنية»، فرد: أظن ان الامور لا تسير كما يجب. اول خلافهما كان على اولى حكومات العهد الجديد ومحاكمة الشيخ بشارة. مذذاك اصبحت دير القمر، مسقط الرئيس، الجار السيء لجنبلاط. لزم شمعون صيفاً القصر التاريخي حتى اندلاع «ثورة 1958».
اول علامات انزعاج جنبلاط، لحظة اعلان انتخاب شمعون، اشتعال سماء دير القمر بالاسهم النارية. يومذاك لم يزر جنبلاط الرئيس المنتخب لتهنئته. بحسب ما روى غسان تويني، تذرّع بألم في القدم قبل ان يقول: هل خضنا كل هذه المعركة لإسقاط بشارة الخوري وانتخبنا رئيساً آخر من اجل ذلك، وكي يحصل هذا الذي يحصل؟ انتظِر سترى اكثر.
ما حدث كان ايذاناً ليس بانتقال زعامة الشوف من المختارة الى دير القمر، بل اول صعود سياسي ماروني في منطقة عدّها الدروز ارضهم تاريخياً. ذكّرت بالصراع المحموم بين صاحب قصر بيت الدين بشير الشهابي وصاحب قصر المختارة بشير جنبلاط.
مذ انتخب، فضّل الرئيس فؤاد شهاب ان يصيّف في عجلتون ويُشتي في صربا وجونيه. الا ان قصر بيت الدين ارتبط في السنة الاولى لعهده بحادثة لا تُنسى. ما كاد الرئيس يصل الى القصر راعياً احتفالاً للمغتربين اللبنانيين مساء 27 تموز 1959 حتى بلغه ان انصار جنبلاط قتلوا بوحشية بعصي وخناجر النائب نعيم مغبغب في طريقه الى الاحتفال، انتقاماً لدوره في «ثورة 1958» في الشوف بسبب صلته الوطيدة بشمعون. ومع ان عجلتون بعيدة كفاية عن بيت الدين والمختارة كي لا يشعر جنبلاط بالمنافسة الشعبية والانتخابية والسياسية كالتي خبرها للمرة الاولى مع ابن رشميا الشيخ بشارة وابن دير القمر كميل شمعون، الا ان جنبلاط - كأحد اهم ركائز العهد الشهابي واقواها - لم ينسَ انه «بيك» لا يسعه الا ان «يبكّل أزرار الجاكيت» في حضرة أمير شهابي هو رئيس الجمهورية. بل لا تنسى ايضاً صورة علم الحزب التقدمي الاشتراكي يقدمه جنبلاط، منحنياً، الى شهاب الجالس على مقعده. ما لم ينسه الزعيم الدرزي كذلك ان شقيق جد شهاب، الامير بشير، استعان بمحمد علي باشا كي يأمر والي عكا عبدالله باشا بقتل بشير جنبلاط جد كمال جنبلاط عام 1825. لم تمنعه هذه المهابة من ان يضم حفيد بشير الشهابي، عبدالعزيز شهاب، الى كتلته في انتخابات 1960 و1964.
في ظل الرئيس سليمان فرنجيه شاع «المجمع الوزاري» الذي لم يتكرر مذذاك، منعقداً في قصر بيت الدين عام 1974، اقرب الى خلوات مجلس الوزراء ناقش التعيينات وورش الوزارات. اما الرئيس الياس سركيس فلم يبرح قصر بعبدا الى قصر بيت الدين سوى يومي 15 تشرين الاول 1978 و17 منه لترؤس اجتماع اللجنة العربية العليا بغية حمل الجيش السوري على انهاء حرب المئة يوم في الاشرفية والانسحاب منها. لم يُتح للرئيس امين الجميّل ان يقيم في قصر بيت الدين طيلة ولايته، بعدما افضت حرب الجبل في ايلول 1983 الى رسم وليد جنبلاط، بدعم عسكري سوري، امارته الدرزية وطرد القوات اللبنانية من كل جبل لبنان الجنوبي. مع ان جنبلاط الابن غالباً ما يميّز بين النسيان والمسامحة، لم يفته بعد سيطرته على الشوف الدخول الى قصر بيت الدين وفتح ضريح بشير الشهابي، واخراج ما تبقى من رفاته كي يلقي بها في الوادي ويجعل الضريح فارغاً انتقاماً للجد بشير جنبلاط.
على مرّ العقود تلك، كمنت مشكلة المختارة مع قصر بيت الدين في علاقة رئيس الدولة بزعيم المختارة الذي غالباً ما يرى وجود ذاك في القصر الصيفي - وإن لشهرين في السنة - اضفاء شرعية تاريخية على قصر بُنيت من حوله إمارة بالاقتصاص من الدروز.
وخلافاً للخوري وشمعون، فضّل فرنجيه ان يصيّف في إهدن، والجميّل في بكفيا، والرئيس الياس هراوي في زحلة، الى ان وقع، للمرة الاولى، اشتباك من طراز مختلف، واجهته قائد الجيش العماد اميل لحود، مع ان القرار سياسي في حكومة احد وزرائها جنبلاط. كان القرار استعادة المنشآت الرسمية المستولى عليها في سني الحرب من الميليشيات. منذ 24 تموز 1992 كانت المواجهة مع جنبلاط الابن الذي استقال ووزراؤه، ثم عادوا عن الاستقالة، جراء استرجاع الجيش قصر الامير بشير، الموضوع تحت السلطة المباشرة لجنبلاط منذ حرب الجبل، بينما تملكه الدولة اللبنانية. بيد ان المشكلة اضحت اكثر تعقيداً بعد انتخاب لحود رئيساً للجمهورية. صيف 1999 عزم على الاقامة في قصر بيت الدين، وأمر بإزالة تمثال لكمال جنبلاط عند مدخل القصر قبل ان يدخل اليه. انفجر النزاع بين رئيس الجمهورية وزعيم المختارة، بيد انه انتهى الى سحب التمثال من الباحة. بعد لحود صيّف الرئيس ميشال سليمان في القصر ثم من بعده الآن الرئيس ميشال عون.
على ان زيارة وفد حزبي وشعبي جنبلاطي كبير الى القصر اليوم ترحيباً بالرئيس - وإن بدت مبادرة غير مألوفة لكنها مهمة وقد تكون ضرورية - لا تكظم ما تحت جبل التاريخ بين أسوأ جارين.