المصدر: نداء الوطن
الكاتب: عيسى يحيى
الأربعاء 6 آب 2025 07:15:28
منذ بروز "حزب اللّه" كقوّة سياسية وعسكرية فاعلة في لبنان، شكّلت العشائر البقاعية أحد أبرز مكوّنات البيئة الاجتماعية التي أحاطت بـ "الحزب"، ونسجت معه علاقة متداخلة ومعقّدة، لا يمكن اختصارها في ثنائية "موالاة أو معارضة". فالعلاقة بين الطرفين اتّسمت على مرّ السنوات بتنوّع الأدوار والوظائف، حيث تداخل التحالف بالتنافس، والتكامل بالتصادم، ضمن معادلة تحكمها ضرورات اللحظة ومصالح الطرفين.
العلاقة بين "حزب اللّه" وعشائر بعلبك الهرمل ليست علاقة عاديّة، بل هي علاقة مركّبة تتنوّع بين التحالف الصلب والتوتر المحكوم، بين الحاجة المتبادلة والصراع على النفوذ. فمنذ ترسيخ "الحزب" وجوده في البقاع بعد التسعينات، بات لزامًا عليه أن ينسج صيغة تعايش مع بيئة عشائرية شديدة الخصوصية، متجذرة بعاداتها، عصبياتها، وقواعدها الاجتماعية، والتي لا تنخرط بسهولة في البنى التنظيمية المعقدة.
في مراحل عديدة، شكّلت العشائر أحد روافد القوّة الشعبية لـ "الحزب". فمن جهة ينتمي قسم من أبناء العشائر إلى القاعدة الاجتماعية التي تحتضن مشروع "المقاومة"، وقد انخرط بعضهم في صفوف "الحزب" أمنيًا وعسكريًا، وينظر العديد من أبناء العشائر لـ "الحزب" كونه قوة مقاومة، واجهت العدوّ الإسرائيليّ، ودافعت عن كرامة الشيعة في لبنان، ما خلق حالة تأييد شعبي. ومن جهة ثانية، تحققت شراكات انتخابية متكرّرة بين "الحزب" ووجوه عشائريّة، ضمّت تمثيلًا للعشائر ضمن لوائح "الحزب" النيابية، ولا تزال بعض الأسماء والوجوه تتكرّر منذ دورات نيابية عدّة، ما سمح لـ "الحزب" بتعزيز حضوره السياسي والمؤسساتي داخل العشائر والعائلات.
ولم يقف الأمر عند حدود السياسة، بل تعدّاه إلى تعاون أمنيّ في بعض المناطق، حيث أدّت العشائر أدوارًا محليّة في ضبط الأمن، أو المساعدة على تسوية النزاعات، تحت غطاء "الحزب" أو بتنسيق غير مباشر معه. هذا التعاون جاء كجزء من استراتيجية "الحزب" لبسط السيطرة الناعمة على بيئته الخلفية، خاصةً في المناطق التي لا يستطيع الوصول إليها عبر أجهزته الحزبية وحدها. وأدّت العشائر دورًا في ضبط الأرض عندما احتاج "الحزب" إلى غطاء اجتماعي غير حزبي.
لكنّ هذه العلاقة لم تكن دائمًا ورديّة، وخالية من التوتر. فالعشائر في بعلبك الهرمل بطبيعتها المستقلّة والمرتبطة بعصبيات تقليدية، تحتكم إلى منظومة قيم مختلفة، فيها من الكبرياء والاستقلاليّة والولاء للعائلة قبل التنظيم. لم تذُب كليًا في البنية التنظيمية الصارمة لـ "الحزب". التباين في المرجعيّات سرعان ما تحوّل إلى احتكاك، خصوصًا في ملف النفوذ المحليّ. فالتنافس على السيطرة الاقتصادية، وصولًا إلى فرض الهيبة في الشارع، كان سببًا في نشوب توترات، وصلت في بعض الأحيان إلى اشتباكات مسلحة، أو إلى تحييد بعض العشائر عن قرارات "الحزب".
لم يكن تفصيلًا البيان الصادر باسم عشائر البقاع دعمًا لـ "الحزب" ورفضًا لطرح بند السلاح في جلسة مجلس الوزراء، وفي وقتٍ نفى "الحزب" علاقته بالبيان من قريب أو بعيد، ولم يصدر عن العشائر أي بيان، ووضِع في خانة التسريبات من جهات تريد زرع بذور التوتر على الأرض، تشير مصادر متابعة إلى أن الغطاء الأمني والسياسي الذي منحه "الحزب" على مدى سنوات للعشائر، ومكّنها ضمن مناطقها، مقابل الولاء، وأوجد حالة توازن نفعي، دفع بالبعض لنشر بيان كهذا، لعلمه بأنه من الصعب على العشائر أن تنقلب على "الحزب" اليوم، أو تتخلى عنه في لحظة مفصلية.
ووفق المصادر لم يكن مفاجئًا البيان الصادر بالأمس دفاعًا عن "الحزب"، في ذروة التصعيد الداخلي والخارجي، والكلّ يعلم أن "الحزب" يستطيع أن يتّكئ على قاعدة شعبية، يستخدمها للتعبئة الشعبية، وما التهويل الذي صدر قبل أيام من ممانعين، والتذكير بـ 7 أيار، إلّا نمط يستخدم عند اللزوم، رافعته معروفة.
واليوم، ومع تصاعد الأزمات الداخلية، وانهيار المحور إقليميًا، وبروز العشائر كقوة فاعلة في ملف السويداء جنوبًا، تُطرح أسئلة جدية حول إمكانية تحوّل العشائر البقاعية إلى رقم صعب في التوازن الداخلي، خصوصًا إذا ما استُدرجت إلى ملفات كبرى، مثل سلاح "الحزب" أو التوازنات الميدانية. وعليه تبقى العلاقة بين "حزب اللّه" والعشائر البقاعية جدلية بامتياز، قائمة على الحاجة والتوجّس في آنٍ معًا، ومفتوحة على احتمالات شتى، تبعًا لما ترسمه التحوّلات المقبلة من خطوط اشتباك أو تلاقٍ.