بين التلال الخمس وملف الشرع: زيارة برّاك بعيون لبنانية

شكلت زيارة الموفد الأميركي توم برّاك إلى لبنان حدثًا دبلوماسيًا لافتًا لما حملته من رسائل مزدوجة في الشكل والمضمون، أعادت تثبيت خطوط التماس السياسية بين بيروت وواشنطن، ولكن بلغة أكثر ليونة وأقل اشتباكًا.

فاللقاءات التي عقدها برّاك مع المسؤولين اللبنانيين، لم تكن بروتوكولية ولا استكشافية فحسب، بل مثّلت منعطفًا يمكن البناء عليه، لا سيما أنها جاءت بعد جولة إقليمية شملت عواصم مؤثرة، ووعد بأن يعود بجواب حاسم من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد ثلاثة أسابيع، ما يعني أن ما جرى في بيروت لم يكن مجرد عرض للأفكار، بل نقاش في الخيارات والمسارات.

النقطة الأكثر أهمية التي حملها برّاك إلى بيروت تمثلت في تأكيده أن البديل عن احتضان الرئيس السوري أحمد الشرع والتعاون معه هو التطرف، وهو كلام غير مسبوق في اللهجة الأميركية تجاه دمشق منذ اندلاع الحرب السورية وسقوط نظام الأسد. لم يضع برّاك هذا الطرح تحت بند المساومة ولا التهديد، بل قدّمه كضرورة استراتيجية لحماية الاستقرار في سوريا والمنطقة، في لحظة انتقال سياسي، ووسط بروز الشرع كاسم توافقي قابل لتقاطع المصالح الدولية. بدا واضحاً أن واشنطن بدأت تخرج من حقل الألغام السوري بخطى أكثر واقعية، وأنها تتلمّس طريقًا مختلفًا عما سارت عليه طوال سنوات.

في المقابل، حمل برّاك معه وعداً بالتعامل الجدي مع مطلب لبناني أساسي يتمثل بانسحاب إسرائيل من التلال الخمس المحتلة، على أن يعود بجواب حاسم بعد إطلاع الرئيس ترامب على خلاصة جولته. لم يُسق الوعد على طريقة "التطمينات الفارغة"، بل أرفقه بتأكيد أن الإدارة الأميركية ستقارب ملف التلال من زاوية الحد من التوتر، والتسريع في فرص الحلول. هو ملف أعادته بيروت إلى الواجهة مستفيدة من المتغيرات الميدانية والدبلوماسية، ومن مناخ يبدو فيه أن أميركا مستعدة للبحث في تفاهمات جديدة، بشرط أن تُربط بمفهوم الأمن والاستقرار المستدام، الذي بات برّاك يكرره في كل اجتماع عقده.

في سياق موازٍ، أعاد لبنان التذكير بأن أزمة النازحين السوريين لم تعد تُحتمل، وأن مبررات بقائهم زالت، وهو ما لقي تفهماً مشروطاً من الضيف الأميركي، الذي أبدى استعداداً لنقل وجهة النظر اللبنانية إلى واشنطن. هنا لم يتقدّم برّاك بوعود سريعة، لكنه بدا مستمعاً جيداً، مدركاً أن هذا الملف بات يشكل مشكلة اجتماعية واقتصادية في الداخل اللبناني.

أما ملف "اليونيفيل"، فقد تصدر اللقاءات من زاوية حرص لبنان الرسمي على بقائها، إذ اعتُبر وجودها ضرورة حيوية لأمن الجنوبيين، وضمانة للجيش اللبناني في أداء مهامه. أكد برّاك أن بلاده تريد فعالية أكبر لـ "اليونيفيل"، لكنه تفهّم الموقف اللبناني الذي شدد على أن مغادرتها تخلق فراغًا خطرًا، وسط اشتعال الحدود الإسرائيلية اللبنانية وتضارب حسابات الحرب والسلام.

وعندما طُرح موضوع السلاح، كان لافتًا أن برّاك لم يضغط باتجاه شروط أو تعهدات، بل سمع مواقف لبنانية موحّدة حول الفصل بين سلاح الفصائل الفلسطينية الذي سبق وبدأت معالجته، قبل أن تجمّده التطورات، وبين سلاح "حزب الله" الذي لا يزال محل اتصالات ضمن الأطر الرسمية اللبنانية. الموقف اللبناني بدا موحداً في التوصيف وفي إدارة الملف، مؤكداً أن معالجة هذه القضية تمرّ عبر الاستقرار أولاً، وأن التهدئة في الجنوب هي التي تُسرّع أي تطور في هذا المجال. برّاك من جهته كرر ثوابت بلاده حول ضرورة بسط سلطة الدولة، لكنه لم يُقابل بمواقف عدائية، بل بنقاش عقلاني، زاده هدوؤه ولياقته ارتياحاً لبنانياً عاماً.

لم يحمل برّاك شرط التطبيع، ولم يطرح أوراقاً استفزازية، بل قدم مجموعة مقترحات دعا الجانب اللبناني إلى دراستها بهدوء، باعتبار أن ما يهم واشنطن في المرحلة المقبلة هو تأمين الأمن والاستقرار، وربما التمهيد لفصل جديد في المنطقة. بدا واضحاً أن أميركا لا تزال ترى في لبنان ساحة قابلة للتفاوض وليست مكاناً للحسم، وأن عهد الضغوط العنيفة أفسح المجال أمام مقاربات أكثر دبلوماسية. حتى إشارته إلى انتقال الموفدة السابقة مورغان أورتاغوس للعمل في الأمم المتحدة لم تكن تفصيلية، بل أتت ضمن سياسة إعادة رسم التوازنات بين المؤسسات الأميركية والانخراط الأممي.

يبقى أن زيارة برّاك لا يمكن عزلها عن دينامية المنطقة ككل، ولا عن الحسابات الانتخابية لترامب الذي يريد أن يُنجز ملفاً في الشرق الأوسط يُحسب له، ولو عبر خطوات صغيرة تؤسس لحل شامل. لذلك، فإن العبرة لن تكون في ما قيل، بل في ما سيعود به برّاك خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة، عندها يتبيّن إن كانت بيروت على موعد مع لحظة تحول حقيقية، أم أن الوقت لا يزال وقت جس نبض لا أكثر.