بين الكهرباء أو الموت.. كيف تتسبب مولدات الكهرباء في ارتفاع الإصابة بالسرطان في لبنان؟

يمر لبنان بأزمةٍ اقتصادية طاحنة بدأت في عام 2019، إذ تجاوز الدين القومي حاجز 170% من إجمالي الناتج المحلي، في واحدٍ من أعلى المعدلات العالمية.

ومع تعمُّق الأزمة، تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي واضطرت الحكومة إلى تقليل كمِّ الوقود الذي كانت تستورده لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، مما ساهم في بروز ما بات يعرف بمولدات الكهرباء، التي يستخدمها معظم أفراد الشعب في الحصول على الكهرباء.
لكن هذه التقنية تسببت في أزمة كبيرة بسبب الدخان المنبعث منها والذي أصاب العشرات بالسرطان خلال العام الحالي.

شكاوى للحكومة

وتعاني ماري، التي تفضل عدم ذكر اسمها كاملاً، بسبب الدخان المنبعث من مولد كهربائي موجود تحت المبنى الّذي تقطن فيه في قضاء بعبدا، شرقي بيروت، ما يضطرّها وعائلتها إلى ترك نوافذ المنزل مغلقة طوال فترة تشغيله.

تقول في حديث إلى "الأناضول" إنها "حاولت مراراً أن تشرح لصاحب المولّد مخاطر استمرار الوضع على حاله، لكن من دون جدوى، حتّى وصل بها الموضوع إلى رفع شكوى ضده، غير أنّها لم تصل إلى نتيجة؛ لتستسلم للأمر الواقع".
بالمقابل، يلاحظ جورج صوّان، الّذي يُجاور منزلَه مولّدان كهربائيّان، كل فترة وجود طبقة سوداء من الغبار على شرفة منزله ناتجة عنهما.

وتخشى ماري، وسواها من أبناء الحي، الإصابة بمرض السرطان الذي يفتك بآلاف اللبنانيين سنوياً، جراء تلوث الهواء بسبب الانبعاثات الصادرة عن المولدات الكهربائية المنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة.

كان لبنان احتل في 2018 المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بمرض السرطان قياساً بعدد السكان، وفق تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية.
وكشف التقرير أن هناك 242 مصاباً بالسرطان بين كل 100 ألف لبناني، فيما سُجلت أكثر من 17 ألف إصابة جديدة في العام ذاته، ونحو تسعة آلاف وفاة بالمرض.

مسبّبات السّرطان كثيرة، ومن أبرزها، الانبعاثات الصّادرة عن المولّدات الكهربائيّة المنتشرة على الأراضي اللّبنانية كافّة، والتي تعوض غياب التيار الكهربائي، الذي يُفترض أن تؤمنه الدولة.

ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي، يعتمد اللبنانيون بشكل كبير على المولدات لسد حاجتهم من التيار، بسبب عجز الدولة اللبنانية وتحديداً مؤسسة كهرباء لبنان، عن تأمين التغذية لـ24 ساعة يومياً؛ فباتت تنتشر المولدات في كل شارع.

ارتفاع نسبة تشغيل المولّدات

تكشف نجاة عون صليبا، مديرة مركز حماية الطّبيعة وأستاذة مادّة الكيمياء في الجامعة الأمريكية في بيروت، أنّه "منذ 10 سنوات، كان يقتصر استخدام مولّدات الكهرباء لمدّة تصل إلى 3 ساعات يومياً، وهذا ما يزيد نسبة تعرُّض السكان لملوّثات خطيرة في الهواء إلى 38 بالمئة".

وتتابع في حديث لـ"الأناضول": "اليوم، باتت المولّدات تُشغَّل لمدّة تتراوح بين 10 و15 ساعة يومياً، وهذا الأمر يزيد من نسبة تعرُّض السّكان لملوّثات خطيرة في الهواء بنحو 5 أضعاف الرّقم القديم".
وتوضح أنّ "نسبة الملوثات السرطانية التي تنتج عن المولدات تجاوزت اليوم الـ300 بالمئة".

لماذا لجأ اللبنانيون إلى المولدات؟

أصبح الملايين من اللبنانيين يعتمدون بشكل مباشر على المولدات بدلاً من البقاء فترة طويلة في "الظلام الدامس"؛ مما ساهم فيما بات يُعرف بـ"مافيا المولدات".

هذه القصة ليست جديدة، إذ كان اللبنانيون يستخدمون المولدات الخاصة للتكيُّف مع حالات انقطاع الكهرباء إبان الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وحينها دخل العديد من أبناء النقابة في السوق السوداء للطاقة.



لكن يبدو أن تلك الفجوة كانت مربحةً للغاية، لدرجة أن أصحاب المولدات استمروا في العمل وسط سوقٍ رمادية غير منظَّمة إلى حدٍّ كبير منذ نهاية الصراع عام 1990، ورغم أن مؤسسة كهرباء لبنان الحكومية هي الوحيدة المرخص لها قانوناً بأن تزود البلاد بالطاقة، لكنها لطالما كانت عاجزةً عن توفير احتياجات البلاد من الكهرباء على مدار الساعة.

الكهرباء لم تعُد أولوية بالنسبة للبنانيين
رغم أن مولدات الكهرباء الخاصة غير قانونية نظرياً، فإن الحكومة تعترف بدورها عن طريق تحديد التعريفات الشهرية، ورغم زيادة أسعار الاشتراكات بعشرة أضعاف منذ بداية العام، فإن "سعادة" يقول إن تلك الزيادات ليست كافية.

حيث أوضح: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فلن يقدر 80% من أصحاب المولدات على مواصلة تقديم خدماتهم. نحن على طريق الظلام الدامس"، ودعا الحكومة المفلسة فعلياً إلى إعادة الدعم للوقود.

لكن العديد من اللبنانيين لا يشعرون بالتعاطف مع "سعادة".

فبالنسبة للبنانيين الذين يُكافحون من أجل توفير الطعام، بالتزامن مع التهام التضخم لقيمة أجورهم؛ تحوّلت الكهرباء إلى رفاهيةٍ لا يمكن تحمُّل تكلفتها.

إذ قال خضر الأخضر (35 عاماً)، رجل المبيعات: "إذا حاولت التفاوض على الأسعار مع أصحاب المولدات، فسيقولون لك: اقبل السعر أو ارفضه. ويتصرفون مثل العصابات. ولا يتنافسون مع بعضهم البعض، إنهم مثل أي كارتل احتكاري حرفياً".

كلنا مشروع سرطان

تجزم صليبا أن " طبيعة الهواء في لبنان سيئة جداً"، مردفة: "كلنا مشروع سرطان، فصوت المولد ودخانه يعيشان في المنزل معنا".

وعن توصياتها للأشخاص الذين يسكنون قرب مولد كهربائي، تذكر بأنه "يجب، بالأساس، ألا تكون هناك مولدات كهربائية بالقرب من المنازل"، مشيرةً إلى أنّه "لا حلّ سوى الاتّفاق مع صاحب المولّد على تسوية ترضي الطّرفين".

مولّدات مستوفية للشّروط

يوضح رئيس تجمّع أصحاب المولّدات الكهربائيّة في لبنان عبدو سعادة أنّ "البلد يضمّ ما بين 6 آلاف و7 آلاف مولّد كهربائي موزّعة على الأراضي اللّبنانيّة كافّة".

ويقول في حديث لـ"الأناضول" إن "المولدات بعيدة من المنازل، كما أننا نحاول حماية الناس من آثارها قدر الإمكان".

ويضيف: "نحن نستوفي الشروط اللازمة الخاصة بالمولدات، مثل وضع "الفلاتر"، التي تخفف من انبعاثات الغازات الملوثة"، متسائلاً: "لماذا لا يتم الانتباه أو تسليط الضوء على التلوث الصادر عن معمل الذوق الحراري (المخصّص لتوليد الطّاقة الكهربائيّة)، شرقي بيروت؟".

وبلغت نسبة تلوّث الهواء في منطقة ذوق مكايل، شمال بيروت، 170 مرة أكثر مما هو مسموح به دولياً، وفق ندوة عُقدت مؤخراً حول "التّحديات البيئيّة في ظلّ الأزمات الرّاهنة"، من تنظيم الحركة الثّقافيّة في منطقة أنطلياس، شمالي العاصمة، شارك فيها وزير البيئة ناصر ياسين.

قوانين غير مطبَّقة

في العام 2011، صدر عن وزارة البيئة قانون ينص على مراقبة تشغيل المولدات الكهربائية واستثمارها، ويحدّد الشروط الفنية المطلوبة والضروريّة لكلّ مولّد، منها تزويده بنظام فعّال لمعالجة الملوّثات الهوائيّة، وصيانته بشكل دائم.

وكان وزير البيئة الحالي قال، خلال الندوة المذكورة، إنه "لا توجد سياسة مستدامة في لبنان تخفف من التلوّث، وإنّ وزارة البيئة بمفردها لا يمكنها أن تعالج هذه المشكلة".

وأردف أنّ "السّياق الذي نحن فيه غير مشجع، وعلى الدولة أن تؤمّن الكهرباء، لأن من الصعب الطلب من أصحاب المولدات تركيب "فلاتر"، فوضعها أصلاً غير شرعي، ومن واجب الدولة توفير الطاقة".

ويعاني لبنان، منذ أشهر، نقصاً في الوقود المخصص لتوليد الطّاقة (الديزل)، بسبب عدم توافر النقد الأجنبي الكافي لاستيراده، ما تسبّب بازدياد ساعات انقطاع الكهرباء لنحو 20 ساعة يومياً.

ومطلع يونيو/حزيران الماضي، وصف البنك الدولي الأزمة في لبنان بأنّها "الأكثر حدّة وقساوة في العالم"، وصنّفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سُجّلت في التّاريخ منذ أواسط القرن التّاسع عشر.