المصدر: نداء الوطن
الكاتب: عيسى يحيى
الأحد 6 تموز 2025 07:02:19
بعد عقدين من القطيعة، دخل مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان قصر الشعب في دمشق، لا زائراً عادياً بل رسول مرحلة جديدة. الزيارة التاريخية تأتي في زمن التحولات الكبرى، حيث تسقط الأنظمة، وتتراجع المحاور، ويعود السنة إلى مركز القرار من بوابة دمشق، لا كضيوف بل كأصحاب حق.
لم تكن زيارة مفتي الجمهورية ومفتي المناطق والوفد المرافق مجرد خطوة بروتوكولية، بل إعلان واضح عن تبدل المشهد الإقليمي، وعودة الصوت السني إلى مركز ثقله التاريخي بعد سنوات من التهميش والعزل. للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، يعبر مفتي الجمهورية الحدود ويستقبل في قصر الشعب، ليس في ظل حكم آل الأسد، بل عهد جديد يحمل توقيع الرئيس أحمد الشرع، ممثل حقبة ما بعد الطغيان ولحظة إنتقالية عنوانها "سوريا لكل السوريين"، ويكنز في العمق إستعادة واضحة لدور الأغلبية الصامتة التي دفعت ثمن صراعات الأقلية الحاكمة.
هي لحظة سياسية بامتياز، تحمل أبعادًا تتجاوز الشكل والمراسم، فبين بيروت ودمشق تاريخ متشابك من الوصاية والدم، من السيطرة والممانعة، من الخطابات المنمقة والإنكسارات المتتالية. اليوم وبعد عقدين من القطيعة، وعقد ونصف من الحرب يعود السنة إلى الشام من بوابة الدولة، لا من فجوة حكم الأقلية، ويمدُّ المفتي يده للشرع بصفته الممثل الأول للسنة في لبنان، الذين لطالما شعروا أنهم تركوا وحدهم في مواجهة إختلال التوازن داخل دولتهم وفي جوارهم.
لطالما شكلت دمشق مرآةً لصورة السنة في المشرق، ومع خروج الأقلية العلوية من السلطة، وتهاوي المشروع الإيراني في الهلال العربي، بات الطريق سالكًا أمام إعادة ترميم الهوية السياسية والدينية للسنة إنطلاقاً من عاصمتهم الطبيعية. وفي لبنان وإن كانت دار الفتوى لزمت الحياد الظاهري طيلة الأزمة السورية، لم تخفِ يوماً أن صبرها ليس رضاً، وأن خطابها الهادىء كان قناعاً فوق جمرٍ مكبوت. وعليه كان لقاء الأمس بين بيروت ودمشق وفق ميزان جديد، لا يحكمه "حزب الله"، ولا تضبطه المعادلة الإيرانية، لقاءٌ يحمل في طياته إشارات إقليمية: عن تراجع النفوذ الإيراني، وانكفاء الميليشات، وصعود تيار الإعتدال السني، ليس بوصفه طائفياً، بل كقوة استقرار جديدة.
مصادر ضمن الوفد المرافق ثمنت حفاوة الإستقبال الذي تلقاه الوفد منذ اللحظة الأولى لدخوله الأراضي السورية، مروراً بلقاء وزير الأوقاف، والصلاة في المسجد الأموي، وصولًا إلى لقاء الرئيس أحمد الشرع، وأشارت لـ "نداء الوطن" إلى أن اللقاء كان بداية للتعارف، ويمثل خطوة استراتيجية لإعادة بناء جسور الثقة بعد سنوات من الغياب، وهي زيارة تحمل رمزية كبيرة في التوقيت والمضمون، حيث عبّر الطرفان عن الرغبة في تجاوز الملفات العالقة من أجل استعادة عمق العلاقات السياسية والدينية والإجتماعية، وأضافت أنه تم نقاش العديد من القضايا الاستراتيجية، شملت بناء علاقات ثنائية على أسس الأخوة والشراكة، وبناء علاقات مؤسساتية، والحرص على استفادة البلدين، وترتيب وتنظيم الأمور سواء الوقفية وغيرها، وأكد الطرفان وفق المصادر الرفض المطلق للتطرف والإرهاب، والعمل على تعزيز التنسيق لمواجهة خطرها.
وأشارت المصادر إلى أن منح وسام دار الفتوى للرئيس الشرع لم يكن مجرّد تكريم شكلي، بل رسالة دينية وسياسية تعبر عن تقدير المرجعية الدينية اللبنانية لمواقف القيادة السورية الجديدة، وجهودها في خدمة البلاد، ودعمًا لاستعادة سوريا كقطب عربي حضاري وديني، وهو تأكيد على توجه دار الفتوى لتعزيز العلاقات مع دمشق عبر المراجع الدينية.
دمشق التي استقبلت المفتي والمفتين ليست دمشق القديمة، ولا دار الفتوى كما عرفها اللبنانيون سابقاً، الزمن تغيرّ، والزيارة ليست إلا إشارة إلى ولادة ملامح شرقٍ جديد، يتقدم فيه السنة من مقاعد الخسارة إلى موقع القرار، لا بثأر، بل بشرعية الوجود والدور.