المصدر: النهار
الكاتب: نبيل بو منصف
الاثنين 25 تشرين الثاني 2024 08:01:41
لم يكن أشد إثارةً لليأس بعد مرور شهرين على زحف الحرب من غزة إلى لبنان مع كل مجازرها، أن تتصاعد أنغام العزف المتهادي والبارد على مشروع وقف النار ذهاباً وجيئة في جولات مكوكية للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين. علقنا بفضل من زجّنا في هذا الجحيم، في حلقة مرعبة دامية صار معدّل الضحايا اليومي فيها يتجاوز مقاييس حرب غزة ولا من يلتفت في العالم إلى مجزرة معمّمة بهذا الشكل ولا يجد لبنان موقعاً إلا نادراً في أولويات الأخبار العالمية. ولعلها من رمزيات الأقدار التي لا ندري ما إن كانت ساخرة أو دراماتيكية، أن نكتشف أن أشهر الموفدين الأميركيين إلى لبنان إبان حرب الـ15 عاماً، وتحديداً لدى نهاية عهد الرئيس أمين الجميّل عام 1988 الذي تلاه فراغ رئاسي مديد أيضاً، السفير السابق ريتشارد مورفي، قد تُوفي في الأيام الأخيرة.
مورفي الذي أدخله كبير "النهار" والصحافة والديبلوماسية غسان تويني التاريخ اللبناني من بوابته الأعرض حين توّج مانشيت "النهار" بتلك العبارة التاريخية "مورفي: مخايل الضاهر أو الفوضى" لم تشبه مهمته مهمة خلفه بعد أقل من أربعة عقود بقليل آموس هوكشتاين إلا بقدرين مخيفين هما قدر الفوضى وقدر تحكيم أميركا بين الدول والقوى الإقليمية التي درجت على استباحة لبنان. وقع المحظور آنذاك وتفاقمت الفوضى بعد حلول الفراغ الرئاسي والاستعاضة عنه بحكومة العماد ميشال عون العسكرية من قصر بعبدا فيما لعلعت حربا التحرير والإلغاء تباعاً، وها هي أخطر وأسوأ أنواع الفوضى التي عبثت بلبنان منذ سنة وشهر وانتهت إلى استجرار الحرب الإسرائيلية ومجازر اليمين العاتي إليه، ترمي لبنان في جحيم فوضوي دموي لا قعر ولا أفق له.
وإن كانت عوامل التشابه والمقارنات بين مهمتي مورفي وهوكشتاين بعد 36 عاماً، بين 1988 و2024، تقول ما تقوله بشكل صارخ عن مصير قاتم لبلد الأرز الذي فشلت أجياله في إقامة دولة تحمي اللبنانيين من فوضى أبدية، فلعلنا لا نلام إن صدمنا مرة تلو المرة أيضاً بتحجر أميركي ثابت حيال واقع الاستباحات الإقليمية التي تستبيح لبنان وتتركه لقمة سائغة بين دول غالباً ما تكون أولوية أميركا ان تسترضيها وتقيم الصفقات معها ولمصالحها ولا تقيم وزناً لحماية لبنان منها. هذه الخشية مبررة وواجبة لأن اللبنانيين الذين تحرقهم المغامرات القاتلة كمثل "المشاغلة" التي استدرجت الحرب والمجازر التي ترتكبها إسرائيل، والخبث الذي تمارسه وتوظفه إيران في لبنان، غالباً ما ظنوا أن براغماتية أميركا قد تشكل الرافعة الأضخم لانحيازها إلى المصالح اللبنانية الخالصة، ولكن يتبيّن أنها براغماتية بين مصالح القوى الإقليمية أولاً بما يوجب على اللبنانيين الإقلاع عن الظن أن العالم يقف في خدمتهم حين تقع الكارثة كمثل ما يجري الآن.
اعتاد المجتمع الدولي على "لبنان الفوضى" إلى درجة تركه راهناً بين براثن التوحّش بلا أيّ ردع أقله لوقف المجازر بين المدنيين وفي أعماق المناطق الآهلة حيث تفنى عائلات عن بكرتها تحت ركام المباني في أبشع الاستعادات المتسابقة بين غزة ولبنان. كان اللبنانيون قد "ظنوا" أن زمناً كهذا لن يعود، وأن فوضى الأزمات الداخلية لا تورّطهم في حروب جديدة، فإذا بفوضى دموية هي الأخطر زحفت وتزحف بلا هوادة.. فلننتظر الوسطاء!