تأثيرات مناخيّة وبيئية هائلة: آلة الحرب الإسرائيليّة تحرق الجنوب

"أعمل كمزارع، واعتاش على موسم الزيتون والحمضيات. في هذا الموسم، وعندما حان موعد القطاف، لم أستطع الوصول إلى أرضي الواقعة عند حدود الناقورة، وعلمت لاحقًا أن البستان المزروع أساسًا احترق بأكمله. لست أدري إن كنا سنعود، لكنني أخشى أن نعود وألا يكون هناك ما يُمكن أن نعتاش منه". يقول مزارع جنوبيّ من الناقورة في حديثه إلى "المدن".

تداعيات جسيمة

اليوم، الناظر إلى المشاهد المروعة، المتأتيّة من الجنوب اللّبنانيّ، وليس تلك المرتبطة بالعمليات العسكريّة وحسب، بل الّتي تستعرض حجم الدمار والتخريب المنهجيّ الذي لحق الغابات والأحراج والبساتين وحيزّاً ضخماً من الرقعة الخضراء، على الحدود وفي الداخل الجنوبيّ؛ فلا بد أنّ يلمح طيف الأزمة المتجلية في هذه المشاهد. الأزمة المتمخّضة عن القسوة والعنف والمظلوميّة الّتي لحقت سكّان هذه المناطق، جراء استمرار النزاع. وحتمًا سيرى المُستقبل المقترح، الذي لا يُصدر سوى رؤية سوداويّة، لا تتوقف فيها الأزمات على تلك الآنيّة أو الموسميّة "كضرّر مواسم الزيتون"، بل تحمل التّداعيات الجسيمة بعيدة الأثر، بيئيًّا ومناخيًّا، والّتي سيدفع فاتورتها المواطنون والمواطنات، بصحّتهم/ن، وسُبل عشيهم/ن، ومصدر أرزاقهم/ن، واستمراريتهم/ن، في الجنوب اللّبنانيّ.

والحال، أنّه وعند الحديث عن الحروب والنزاعات المُسلّحة، غالبًا ما يتمّ قراءتها ودراسة آثارها من زوايا سياسيّة وسوسيولوجيّة واقتصاديّة واستراتيجيّة بشكلٍ عام. فيما يغيب الأثر البيئيّ والمناخيّ لهذه الحروب والنّزاعات عن الدراسات، أو يتمّ معالجته بصورةٍ تبسيطيّةٍ ومختزلة. إلّا أن النزاعات الأخيرة والّتي يموج بها الشرق الأوسط (كسوريا ولبنان والعراق واليمن والأراضي الفلسطينيّة المحتلة)، وشرقيّ أوروبا (كالحرب الروسيّة على أوكرانيا)، أعادت ترتيب هذه الأولويات، وسلّطت الضوء على الأثر البيئيّ والمناخيّ للنزاعات المُسلّحة، الذي لا يقلّ أهمية عن الأبعاد الاستراتيجيّة والجيوستراتيجيّة؛ بل يمكن أن يكون له تأثيرات طويلة الأمد على الطبيعة والبشر والسّياسة على حدٍّ سواء. وتشمل هذه التأثيرات تدمير الأراضي الزراعيّة، تلويث المياه وسائر الموارد الطبيعيّة، ونشر المواد الكيميائيّة الضارّة في البيئة. بالإضافة إلى إسهامات الأنشطة العسكريّة بشكلٍ مباشر في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة (وهي انبعاثات تنتج عن اطلاق ثاني أوكسيد الكربون والميثان وأوكسيد النيتروجين وبخار الماء المؤدية إلى الاحتباس الحراريّ)، الّتي تُغذي أزمة التّغيّر المناخيّ.

وإن كان من الصعوبة حاليًّا، طرح فهم مُعمّق ودقيق للتعقيدات والتداعيات، وسط الاشتباكات العسكريّة المستمرة حتّى اللحظة، والتحديات الأمنيّة واللوجيستيّة في إجراء استطلاعٍ ومسحٍ شامل؛ يُركز تحقيق "المدن" على التداعيات البيئيّة المحتملة للنزاع المُسلّح والاعتداء المستمر على الجنوب اللّبنانيّ، مع التعريج على البصمة الكربونيّة Carbon footprint (مجموع الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجويّ، ويتمّ قياسها من خلال تحديد مستوى استهلاك الوقود الأحفوريّ لإنتاج الطاقة) لهذا الصراع، واستكشاف سُبل لتقييم الآثار البيئيّة والمناخيّة، لا سيما آثارها على السكّان المستضعفين والسّياسة العامّة في لبنان، في سبيل الإضاءة على أهمية صياغة سياسات بيئيّة تدعم جهود التخفيف من آثار الحرب على البيئة والسكّان والتّغيّر المناخيّ.

لمحة عامّة على الوضع في الجنوب اللّبنانيّ: تقييم الأضرار الماديّة والزراعيّة والبيئيّة

بدخول الحرب على الجنوب شهرها الحادي عشر، تحولت القرى على طول الشريط الحدوديّ إلى مناطقٍ منكوبة ومُدمرة، تعكس حجم الخسائر الناجمة عن الاعتداءات المستمرة الإسرائيليّة على الجنوب اللّبنانيّ، والّتي أدّت حتّى اللحظة إلى مقتل العشرات من المدنيين، وإصابة المئات، وتشريد عشرات الآلاف، مراكمةً الخسائر الماديّة والبيئيّة والعمرانيّة والزراعيّة والاقتصاديّة. وهذا ما أوردته أحدث تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (OCHA)، بتاريخ 23 آب 2024، الذي أفاد عن نزوح ما يقرب 111,940 شخصاً (51 بالمئة من الإناث)، فيما لا يزال حوالى 60,000 مدني موجودين في المدن والقرى، في المناطق الصعبة الوصول على طول الخطّ الأماميّ، وفقًا للبيانات المتاحة.

وقال المكتب إن لبنان لا يزال يعاني بشكل كبيرٍ من الأعمال العدائيّة الجاريّة، حيث تحدث اشتباكات يوميّة عند الحدود الجنوبيّة. بينما يتركز القصف في نطاق 12 كيلومترًا من الخط الأزرق، بينما تصل الضربات الجويّة الإسرائيليّة المستهدفة إلى عمق البلاد، ممتدةً حتّى مسافة 100 كيلومتر من الحدود.

وقد تم تسجيل أضرار جسيمة في البنية التحتيّة للمياه والكهرباء والاتصالات، وكذلك الطرق في جنوب لبنان، وقد قُدرت القيمة الإجماليّة للأضرار حتّى الآن بـ1.7 مليار دولار أميركيّ. كما أفاد المكتب أن القطاع الزراعيّ فقد 17 مليون متر مربع، الّتي احترقت نتيجة القصف الإسرائيليّ، بشكلٍ رئيسي بسبب الفوسفور الأبيض، مع تأثيرات ستستمر لسنوات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن المزارعون من حصاد المحاصيل من 12 مليون متر مربع من أراضيهم. حتى الآن، تعرضت 13 بنية تحتيّة للمياه لأضرارٍ بسبب الأعمال العدائيّة عبر الحدود، مما أثر على إمدادات المياه لحوالى 200,000 ساكن في الجنوب والنبطية. وانخفض تحصيل رسوم المياه إلى ما يقرب من الصفر في محافظتي الجنوب والنبطية، مما وضع مؤسسة مياه جنوب لبنان في وضع صعب للغاية. كما وأشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة أنّه وفي أعقاب التصعيدات الأخيرة، تأثر القطاع الزراعيّ بشكلٍ كبير.