تحقيقات رياض سلامة: أربع مراحل لتبييض الأموال المختلسة

بدأت يوم أمس جلسات التحقيق التي تجريها الوفود القضائيّة الأوروبيّة في قصر العدل، في العاصمة اللبنانيّة بيروت، بعد اجتماع تمهيدي مع النائب العام التمييزي غسان عويدات، بحضور المحامين العامين التمييزيين القاضيين عماد قبلان وميرنا كلاس. وكما كان متوقّعًا، تم الاتفاق على تكليف كلاس بمهمّة إدارة جلسات التحقيق مع الشهود وطرح الأسئلة، بمعاونة قبلان، بينما سيكتفي الوفد الأوروبي بتسجيل الملاحظات خلال الجلسات.

تطورات يوم أمس
خلال اليوم الأوّل من جلسات التحقيق بالأمس، حضر النائب السابق لحاكم مصرف لبنان والمدير المؤقّت الحالي لفدرال بنك سعد العنداري. أمّا الشاهد الثاني، الموظف السابق في هيئة الرقابة على المصارف خليل آصاف، فتغيّب بعذر صحّي، على أن يُعاد تحديد جلسة أخرى معه في وقت لاحق. ومن المفترض أن تُستكمل الجلسات اليوم بحضور مدير عام بنك الموارد مروان خير الدين، والنائب السابق لحاكم مصرف لبنان أحمد جشّي.

مع الإشارة إلى أنّ الوفد الموجود حاليًّا في العاصمة بيروت يمثّل السلطات القضائيّة في كل من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، التي تجري تحقيقات مشتركة مع ثلاث دول أوروبيّة أخرى، هي سويسرا وبلجيكا وليختنشتاين، في شبهات الاختلاس والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، التي تدور حول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

الاختلاس المثبت
المسألة الأكيدة في التحقيقات حتّى هذه اللحظة، هي أنّ المحققين تثبتوا بشكل حاسم من عنصر الاختلاس والإثراء غير المشروع في عمليّات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشركائه في بيروت، فيما تتركّز جهودهم في الوقت الحالي على رسم خريطة عمليّات تبييض الأموال، التي هدفت إلى إخفاء مصدر الأصول التي تم اختلاسها.

فالمصارف التجاريّة اللبنانيّة المعنيّة بالملف، أكّدت خلال التحقيقات السابقة أنّها قامت بشراء سندات اليوروبوند وشهادات إيداع مصرف لبنان من المصرف المركزي مباشرة، من دون المرور بأي وسيط، ومن دون تسديد أي عمولة لأي طرف ثالث. وفي جميع عقود شراء هذه المنتجات الماليّة، لم ترد أي عبارة تشير إلى شركة فوري، المملوكة من شقيق الحاكم رجا سلامة، كما لم يرد ما يشير إلى عمولة ما سيتقاضاها أي طرف. بمعنى أوضح، لم تقدّم شركة شقيق الحاكم أيّ من الخدمات الماليّة المزعومة، التي ادعت تقديمها للحصول على العمولات من حسابات مصرف لبنان.

لتمكين الشركة من الحصول على هذه العمولات، وقّع رياض سلامة سنة 2001 –بصفته حاكمًا لمصرف لبنان- عقدًا مع شركة شقيقه، منحها فيه حق العمل كوكيل عن المصرف المركزي لبيع سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع للمصارف التجاريّة، مقابل الحصول على عمولة بنسبة 0.375% من قيمة السندات وشهادات الإيداع المباعة. بالتأكيد، لم تقدّم هذه الشركة الوهميّة أي من الخدمات التي نصّ عليها العقد، ولم يكن هناك أصلًا أي مبرّر لتعيين شركة من هذا النوع كوسيط بين المصرف المركزي والمصارف التجاريّة. إلا أنّ العقد لم يكون سوى غطاء لتنفيذ عمليّات الاختلاس التي جرت، من مردود بيع سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع.

تحت ستار هذا العقد، حوّل حاكم مصرف لبنان أكثر من 330 مليون دولار، من مردود عمليات بيع سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع للمصارف، من حسابات مصرف لبنان إلى حساب شركة فوري في سويسرا. عمليًّا، كانت المصارف قد سددت كل هذه الأموال لمصرف لبنان كجزء من ثمن السندات وشهادات الإيداع، فيما اقتطع الحاكم هذه "العمولة" من عائدات عمليّات البيع، وحولها لشركة فوري بوصفها الوسيط المزعوم الذي قام ببيع هذه المنتجات الماليّة.

وعلى هذا الأساس، تم تثبيت شبهة الإختلاس والإثراء غير المشروع على عمليّة تحصيل العمولات التي جرت بين مصرف لبنان وشركة فوري. ووثّقت التحقيقات هذا الجانب من الشبهات من خلال شهادات المصرفيين، الذين أكدوا عدم معرفتهم بوجود الشركة أو بدورها، عند إجراء عمليّات شراء المنتجات الماليّة من مصرف لبنان، كما وثقتها من خلال عقود شراء هذه المنتجات، التي لم تنص على وجود شركة فوري كوسيط يعمل بالنيابة عن مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ إخفاء دور شركة فوري في تلك المرحلة، وعدم ذكرها في العقود أو عند إجراء عمليّات بيع المنتجات الماليّة، يؤكّد أن فكرة وجود وسيط بين المصرف المركزي والمصارف لم تكن فكرة منطقيّة يمكن الإفصاح عنها بشكل صريح في ذلك الوقت، وأن ما جرى لم يتجاوز حدود السطو الصريح على أموال عامّة كان من المفترض أن تصب في ميزانيّة مصرف لبنان.

أربع مراحل لتبييض الأموال
بعد اختلاس المبلغ في بيروت، سعى كل من رياض ورجا سلامة إلى تبييض هذه الأموال، عبر شبكة معقدة من الحسابات المصرفيّة والكيانات الوسيطة المسجّلة في الجنّات الضريبيّة. وكأي عمليّة تبييض أموال، سعى الشقيقان –من خلال العمليّات المعقدة- إلى إخفاء مصدر الأموال الحقيقي، ومن ثم تحويلها إلى أصول استثماريّة وعقاريّة مملوكة بشكل طبيعي من قبل حاكم مصرف لبنان. وحسب المعطيات التي باتت متوفّرة في هذا الملف، من الواضح أن الأخوين سلامة قاما بتبييض هذه الأموال على أربع مراحل:

- المرحلة الأولى: تم تحويل جميع العمولات التي تجاوز قيمتها 330 مليون دولار على مراحل، من حساب وسيط في مصرف لبنان إلى حساب شركة فوري في مصرف HSBC في سويسرا. ومثّل هذا الحساب "عنق الزجاجة" التي مرّت بها كل المبالغ التي تم تحصيلها تحت ستار الشركة من قبل رجا ورياض سلامة.

- المرحلة الثانية: تم تحويل 220 مليون دولار من قيمة العمولات، من حساب شركة فوري في سويسرا إلى حسابات رجا سلامة الشخصيّة لبنان، فيما تم تحويل 86 مليون دولار إلى شركات وسيطة أخرى في الخارج، مسجّلة بإسم رجا سلامة ووالدة إبنه سلامة آنا كوزاكوفا وغيرهم من شركاء الحاكم في الملف.

- المرحلة الثالثة: تم توزيع هذه المبالغ ما بين حسابات مملوكة من رياض سلامة شخصيًّا في لبنان وسويسرا والولايات المتحدة الأميركيّة، وشركات أخرى مملوكة من قبل الحاكم في لوكسمبورغ. وفي هذه المرحلة بالتحديد، تم إعادة المبالغ من حسابات شركاء الحاكم إلى حسابات وشركات مسجلة بإسمه شخصيًّا، ما مثّل التأكيد الأهم على أن رياض سلامة هو المستفيد النهائي من العمولات المرتبطة بشركة فوري.

- المرحلة الرابعة: تم استخدام حصيلة العمولات التي حطّت في حسابات الشركات المملوكة من حاكم مصرف لبنان لشراء عقارات في أسواق المملكة المتحدة وبلجيكا وفرنسا وألمانيا.

مصارف في عين العاصفة
تشير المصادر المتابعة للملف إلى أنّ جميع المصارف التي قامت بشراء سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع تمكنت من تثبيت عدم معرفتها بوجود عمولات مرتبطة بشركة فوري، ما يرجّح إبعاد تهمة التواطؤ عنها في هذا الملف. إلا أنّ المصارف الستّة المعنيّة بتلقي التحويلات من شركة فوري في سويسرا إلى حسابات رجا سلامة في لبنان، ستحتاج خلال المرحلة المقبلة إلى تثبيت قيامها بالعناية الواجبة “Due Diligence” المرتبطة بمكافحة تبييض الأموال، أي قيامها بالإجراءات البديهيّة المطلوبة منها للتأكّد من مصدر الأموال ومشروعيّتها. فهذه المصارف بالتحديد، تلقت 220 مليون دولار في حسابات رجا سلامة لديها، من أصل 330 مليون دولار التي تم اختلاسها، وهو ما ساعد رجا سلامة على تبييض الأموال المختلسة.

من المفترض أن تجيب تطوّرات الأيّام المقبلة على الأسئلة المرتبطة بدور المصارف اللبنانيّة في عمليّات تبييض الأموال التي جرت، من خلال الإيضاحات التي ستقدمها المصارف لوفد التحقيق الأوروبي. إلا أنّ المشكلة الأهم، تبقى غياب لبنان كليًّا عن الدور الذي يفترض أن يلعبه، على مستوى محاولة استعادة الأموال العامّة التي تم تبديدها في هذه القضيّة. أمّا السبب الأساسي، فهو تقاعس وزير الماليّة المتعمّد عن تعيين محامي دولة لهذه القضيّة، بما يسمح بمطالبة الدول الأوروبيّة بالحجز على الأصول المشتبه بمصدرها لمصلحة الدولة اللبنانيّة، بدل أن تقتصر الحجوزات القائمة اليوم على تلك التي فرضتها السلطات الأوروبيّة. وهذا التقاعس، قد يهدد في المستقبل بخسارة حق لبنان في هذه الأموال، في حال تمكّن رياض سلامة من الوصول إلى تسوية، يدفع بموجبها غرامات كبيرة للسلطات الأوروبيّة مقابل تحرير أصوله في الخارج.