تراجع الليرة يخفض الدين العام من 100 مليار دولار الى 43 ملياراً

ليس مستغرباً وصول حجم المديونية العامة الى مستويات كارثية راكمها على مدى أكثر من 30 عاماً سوء الإدارة وعدم الكفاية والفَساد والهدر في مالية الدولة ومؤسّساتها العامة. تضاف إليها الزبائِنية والريع واللاإنتاجية في الاقتِصاد وعَدَمُ المُساءَلة، بما تسبّب بانهيارات لم يسبِق لها مثيل في العالم منذ عام 1857، وفق توصيف البنك الدولي في تقريره العام الماضي بعنوان "لبنان يغرق Lebanon Sinking".

فلبنان الذي خرج من الحرب المدمرة التي امتدّت من سنة 1975 حتى 1990 من دون ديون كبيرة مترتبة على الدولة، أصبح حجم الدين حالياً يناهز 100 مليار دولار، علماً بأنه في أواسط عام 1976، كان حجم الدين العام صفراً بحسب الرئيس الراحل سليمان فرنجية الموثق في خطاب الوداع بتاريخ 19 أيلول 1976، أما في أول التسعينيات فوصل حجم الدين الى ما يوازي 3 مليارات دولار، منها فقط 350 مليون دولار بالعملات الأجنبية والباقي دين بالعملة اللبنانية.

منذ بدء ما يسمّى مرحلة الإعمار خلال التسعينيات حصل إنفاق مالي كبير مقابل إيرادات أقل، وكل سنة تسجّل الموازنة عجزاً متزايداً يصل أحياناً الى عجز 50%. هذا العجز المتفاقم أدى الى تزايد نسبة الدين العام سنة تلو الأخرى. ففي نهاية عام 1992 كان مجموع الدين العام يعادل نحو 3 مليارات دولار منه 327.5 مليون دولار والباقي بالليرة اللبنانية. ثم ارتفع إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثل نموّاً سنوياً بنسبة 67%. أما في نهاية عام 2021 فتخطى الدين العام مقوّماً ب#الدولار على أساس سعر الصرف الرسمي (1508.5 ليرات للدولار الواحد) حدود 100.39 مليار دولار (موزّع بين 61.84% بالليرة اللبنانية و38.16% بالدولار الأميركي).

حالياً وصل حجم الدين العام الى 100 مليار دولار، وهو الرقم الذي حذر منه الكثير من الخبراء في فترة التسعينيات، وفق ما يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين الذي يوضح أنه كان في إمكان لبنان تخفيف الكثير من الإنقاق وبرمجة المشاريع لتفادي الوصول الى هذه المرحلة من الدين، إذ أصبح الدين العام يشكل حالياً نحو 500% من الناتج المحلي، لافتاً الى أن "السبب الأساسي في الوصول الى نسبة الدين هذه هو الفوائد المدفوعة، إذ كانت الفائدة على سندات الخزينة تصل الى 40%، فمنذ عام 1993 إلى اليوم، كانت الفوائد تشكل 50% من نفقات الدولة، وفي بعض السنوات، تجاوزت فوائد الدين العام وحدها 137% من نفقات الدولة. حتى وصلت نسبة الفائدة المتراكمة منها إلى نحو 89 مليار دولار. ويقول شمس الدين "فعلياً، الدين العام غير موجود لولا هذه الفوائد التي اعتمدت لجذب الودائع".

باحتساب كلفة خدمة الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة على مدى السنوات 1992-2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، بلغت المبالغ الواجبة في نهاية عام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2001 نحو 30 ألف مليار ليرة. زاد الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد رصيد الدين العام ليصبح حوالى ملياري دولار أميركي ليتخطى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار. وبحسب تقرير لوزارة المال، فإنه بعد احتساب قيمة الفوائد المتراكمة على السداد، بلغت قيمة الدين العام المقوّم بالعملة الأجنبيّة نحو 38.52 مليار دولار، منها نحو 9.45 مليار دولار من السندات التي استحقت تدريجاً منذ آذار 2020، من دون أن تسدّد.

ولكن ما هي قيمة الدين العام فعلياً بعد تراجع قيمة الليرة؟

من آذار 2021 حتى 2022 ارتفع الدين بمقدار 3.4 مليارات دولار. ووفق تقرير وزارة المال، تجاوزت قيمة الدين العام المقوّم بالعملة المحلية حدود 61.86 مليار دولار، وهو ما يجعل قيمة إجمالي الدين العام (بالليرة والعملات الأجنبية) نحو 100.38 مليار دولار، علماً بأن الدولة استمرت منذ آذار 2020 بسداد السندات المقوّمة بالليرة اللبنانية، عبر اقتراض السيولة اللازمة لذلك من مصرف لبنان.

ولكن مجمل الدين العام اللبناني الذي كان بنحو 100 مليار دولار أصبح فعلياً 43 مليار دولار، وفق ما يقول شمس الدين، إذ إن حجم الدين الداخلي المقوّم بالليرة يبلغ نحو 29061 مليار ليرة، أما الدين الخارجي المقوّم بالدولار فيبلغ نحو 39 مليار و360 مليون دولار بالعملات الاجنبية. وإن كان الدين بالدولار لا يزال على حاله فإن نسبة الدين بالليرة أصبحت قيمتها نحو 3 مليارات دولار إذا احتُسب على أساس سعر صرف 30 ألف ليرة. وهو ما يجعل إجمالي الدين العام (بعد إضافة قيمة الدين المقوّم بالعملة الأجنبية، أي اليوروبوند) نحو 43 مليار دولار.

في المقابل، فإن الدين العام (100 مليار دولار) انخفض الى نحو 42 مليار دولار على اعتبار أن الدين بالليرة انخفض تبعاً لتراجع قيمة العملة اللبنانية، أما إذا احتسبناه بالليرة فأصبح الرقم أكبر بكثير، وهذا برأي شمس الدين مشكلة كبيرة على اعتبار أن إيرادات الدولة ونفقاتها بالليرة، اللهم إن كان التعويل على إيرادات النفط والغاز.

الى ذلك، تؤكد مصادر مالية متابعة، أن ثمة إشكالية كبيرة في طريقة احتساب وزارة المال لإجمالي الدين العام، بالنظر إلى اعتمادها سعر الصرف الرسمي القديم لتقدير قيمة الدين المقوّم بالعملة المحليّة، واحتسابه بالدولار، قبل إضافة هذا الرقم لقيمة سندات اليوروبوند (سندات الدين بالعملة الأجنبية). وتالياً فإنه بمجرد اعتماد سعر الصرف الرسمي على أساس 1515 ليرة، بدل اعتماد سعر الصرف الفعلي في السوق الذي ناهز 30 ألف ليرة، من الطبيعي أن تتضخم قيمة الدين العام بالليرة، عند احتسابه بالدولار الأميركي.