تفعيل "آلية الزناد"... عودة للتفاوض أم انتكاسة؟

في نيويورك، بدأ العد التنازلي. فقد فعّلت «الترويكا» الأوروبية، فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، رسمياً «آلية الزناد» (سناب باك) التابعة للأمم المتحدة ضد إيران، لتعيد بذلك نظام العقوبات المُعلّق بموجب الاتفاق النووي لعام 2015.

تُطلق هذه الخطوة، عمليةً مدتها 30 يوماً، وبعدها، ما لم تُؤجل، ستُعاد تلقائياً العقوبات الأممية المُحددة. بالنسبة إلى «الترويكا»، تُعدّ هذه خطوةً ضروريةً لمحاولة إنقاذ الدبلوماسية النووية وجلب الحرب إليها بعد القصف الإسرائيلي الأميركي لإيران.
أما بالنسبة إلى إيران، فالخطوة اختبارٌ لنوايا أوروبا النهائية: الضغط للتفاوض، أو ببساطة تصعيدٌ آخر مُقنّعٌ في صورة دبلوماسية لإرضاء الولايات المتحدة والتحضير لحرب جديدة.

فمطلب مجموعة الدول الثلاث بسيط: يجب على إيران استئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والكشف عن موقع مخزونها من اليورانيوم المُخصّب بنسبة 60 في المئة، والعودة إلى المفاوضات.

بالنسبة إلى طهران، لم تلتزم الدول الثلاث بتعهداتها في الاتفاق النووي، ووافقت على الحرب الإسرائيلية - الأميركية على منشآتها النووية وقتل علمائها وشعبها.

فالفجوة هائلة، وتالياً فإنها تعتبر أن إعادة بناء العلاقة معها ليست خياراً في الوقت الحالي دون التخلي بالضرورة عن المسار الدبلوماسي، فن المستحيل.

مفارقة صارخة

عندما تأسست مجموعة الدول الأوروبية الثلاث عام 2003، كان هدفها منع إدارة جورج بوش من شن حرب أخرى في الشرق الأوسط. بعد عقدين من الزمن، أصبحت أوروبا أكثر اعتماداً اقتصادياً وسياسياً وإستراتيجياً على الولايات المتحدة.

إيران، التي كانت تُعتبر في السابق شريكاً حيوياً في مجال الطاقة، أصبحت مهملة بفعل العقوبات المتتالية.

تغير السياق الجيو- سياسي مجدداً مع تنامي تحالف إيران مع روسيا في أوكرانيا. بالنسبة إلى الكثيرين في العواصم الأوروبية، لم يعد الضغط على طهران يقتصر على الانتشار النووي فحسب، بل يشمل أيضاً معاقبة شريك لموسكو.

أصبح التحالف مع صقور واشنطن، حتى على حساب الدبلوماسية، ثمناً للحفاظ على الوحدة عبر الأطلسي.

ويُظهر رد الفعل الدولي الأوسع مدى جدية الحكومات في توقع التصعيد. حثت ألمانيا مواطنيها على مغادرة إيران وتجنب السفر إليها، وهو تحذير رددته أستراليا والهند والعديد من الدول الأوروبية والآسيوية، التي بدأ العديد منها في تسهيل عمليات الإجلاء عبر الدول المجاورة.

هذه الإجراءات تعكس توقعاً مشتركاً بأن إعادة فرض العقوبات لن تبقى مجرد حبر على ورق، بل قد تُثير إجراءات انتقامية أميركية - إسرائيلية ذات عواقب لا يمكن التنبؤ بها. كما تحركت واشنطن لتعزيز دفاعات إسرائيل، بنقل بطاريات صواريخ «ثاد» إلى الأراضي الإسرائيلية. وكانت الصواريخ البالستية الإيرانية قد الحقت أضراراً بالغة بإسرائيل خلال الأسبوع الثاني من حرب يونيو، ومن المتوقع أن تكون الجولة المقبلة أكثر دموية من الأولى.

قرقعة السلاح

هناك العديد من المعطيات التي تُشير إلى أن حرباً ثانية محتملة غير مُستبعدة - لا سيما إذا استمرت إيران في رفض عمليات التفتيش المُتطفلة من الوكالة الذرية في كل المواقع، بما في ذلك تلك التي تحتوي على اليورانيوم المُخصب بنسبة 60 في المئة، والذي فشلت إسرائيل والولايات المتحدة في تدميره خلال جولتهما الأخيرة من الضربات، وتجاهل موقع مخزون اليورانيوم المُخصب.

لا مصلحة لأي طرف في انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي، الأمر الذي سيترك معرفتها وقدراتها النووية خارج أي شكل من أشكال الرقابة الدولية... ستكون إيران في حالة تعتيم نووي كامل، وسيتعين على أجهزة الاستخبارات العمل بجد لجمع المعلومات في بيئة شديدة العداء.

ومع ذلك، فقدت أوروبا بالفعل الكثير من نفوذها بعد أن استولت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايتها الثانية على زمام المبادرة - استئناف المحادثات مع إيران مع الانضمام في الوقت نفسه إلى إسرائيل في قصف المنشآت الإيرانية، ما أدى فعلياً إلى تهميش الدور والدبلوماسية الأوروبية.

إن إعادة فرض العقوبات من قبل «الترويكا» ليست قراراً نهائياً بحد ذاتها، بل خطوة إجرائية تفتح نافذة لمدة 30 يوماً. من المرجح أن تضغط الصين وروسيا من أجل تمديدات تتجاوز هذه الفترة لتكوين مساحة أكبر للدبلوماسية - من دون أي ضمان للنجاح، لكن أيضاً من دون فشل نهائي - مما يمنح جميع الأطراف وقتاً للتراجع عن المواقف التي رسخت نفسها فيها.

العقوبات و... الضمانات

مع ذلك، اختارت إيران مساراً مختلفاً. فهي تسمح فقط بالتفتيش في مركز طهران للأبحاث النووية المدنية وفي محطة بوشهر النووية، مع منع الوصول إلى أي مكان آخر. الخيار ليس عشوائياً. بوشهر منشأة روسية الصنع تعمل بالوقود الروسي، وتدير موسكو دورة الوقود بالكامل - من الإمداد إلى إزالة الوقود المستهلك.

بإبقاء بوشهر تحت التفتيش، تُطمئن إيران حليفها الإستراتيجي الأهم، وتتجنب الاحتكاك مع الدولة التي تحميها في مجلس الأمن. أما موسكو، فتستخدم بوشهر كضمانة لعدم إساءة استخدام تقنيتها النووية.

يمنح هذا التعاون إيران غطاءً سياسياً. فمن خلال إبقاء موقع واحد على الأقل مفتوحاً، يمكن لطهران أن تُجادل بأنها لم تتخلَّ عن التزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، متجنبةً بذلك اتهامات عدم الامتثال التام التي قد تُؤدي إلى عقوبات أشد.

في الوقت نفسه، يُتيح منع المفتشين من الوصول إلى جميع المواقع الأخرى نفوذاً قيّماً: فإذا أراد الغرب عمليات تفتيش أوسع، فسيتعين عليه التنازل عن تخفيف العقوبات، والاعتراف بدور إيران الإقليمي، أو الضمانات الأمنية، وحق إيران في تخصيب اليورانيوم محلياً بنسبة مئوية محدودة بعد اتفاق قوي، تحترمه جميع الأطراف.

إذا مضت الآلية في مسارها، فستكون العواقب وخيمة. سيُعاد فرض حظر الأسلحة على إيران، إلى جانب فرض قيود على برنامجها الصاروخي، وفرض المزيد من القيود المصرفية.

نظرياً، يُعادل هذا إعادة فرض الحظر بالكامل. نظام عقوبات الأمم المتحدة الذي رُفع بشق الأنفس من خلال خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).

بالنسبة إلى إسرائيل والدوائر المتشددة في واشنطن، يُمثل هذا نصراً إستراتيجياً، وإن كان محدوداً.

اعترفت خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية بحق إيران في تخصيب محدود تحت رقابة صارمة. ومع ذلك، تُعيد آلية «سناب باك» ترسيخ الموقف القانوني عند مستوى تخصيب صفري - وهو مطلب لطالما رفضته طهران وسعت إسرائيل إلى فرضه. عملياً، تُوفر هذه الآلية غطاءً سياسياً لمن يدفعون نحو المواجهة من كلا الجانبين.

لماذا لن تكشف إيران عن مخزونها؟

في ظل الضغوط الغربية، تركز الكثير من الاهتمام على كيفية تأثير آلية «سناب باك» على الاقتصاد الإيراني. في الواقع، تُركز قرارات الأمم المتحدة المُعاد إحياؤها في شكل ضيق على البرنامج النووي، وتخصيب اليورانيوم، والصواريخ البالستية، وتجارة الأسلحة. بالنسبة إلى طهران، تعتمد الجمهورية الإسلامية بالفعل على القدرات المحلية وقليل من التعاون الدولي في هذه القطاعات.

الأهم من ذلك، أن القرارات لا تستهدف مباشرةً صادرات النفط أو النظام المصرفي الإيراني، باستثناء دعوة مبهمة إلى «الحذر» في المعاملات المرتبطة بأنشطة عسكرية أو نووية حساسة.

لذا، فإن الخطوة الأوروبية لا تهدف إلى شل اقتصاد إيران المتردي أصلاً بقدر ما تهدف إلى ممارسة ضغط سياسي - إجبار طهران على تقديم تنازلات بعد الانتكاسات التي واجهها برنامجها النووي، وقبول قيود جديدة على دورها الإقليمي - من دون ضمانات برفع العقوبات القاسية.

من المؤكد أن الاقتصاد الإيراني سيتأثر سلباً. لكن بعد سنوات من «الضغط الأقصى» الأميركي، انسحبت الشركات الغربية بالفعل، ومن غير المرجح أن تتأثر تجارة طهران مع الصين وروسيا والعراق وتركيا وشركائها في دول الجنوب.

القضية الأكثر إثارة للجدل هي مطالبة طهران بالكشف عن موقع مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، والبالغ 408 كيلوغرامات. ظاهرياً، يبدو هذا وكأنه مسألة شفافية مباشرة. لكنه في الواقع فخ سياسي.

يجادل المسؤولون الإيرانيون بأن الكشف عن مواقع المخزونات الدقيقة سيُعدّ بمثابة دعوة لحملة قصف أميركية - إسرائيلية أخرى.

في يونيو، ضربت إسرائيل والولايات المتحدة منشآت نووية إيرانية لم تُسلّح قط. تُصرّ طهران على أن تلك المواقع كانت خاضعةً لمراقبة الوكالة الذرية في شكل صارم، وأنها جزءٌ من برنامجٍ مدني.

إذا أدى التعاون مع المفتشين إلى تدمير منشآتٍ خاضعةٍ للحماية، فلا ترى إيران أيَّ حافزٍ لتكرار الخطأ نفسه من دون أيِّ ضمان. لذا، بالنسبة إلى طهران، فإنّ الطلب ليس مسألةً فنيةً، بل مسألةً وجوديةً: فالكشف عن مكان وجود المخزون يُعادل تحديد هدفٍ للغارة الجوية الإسرائيلية - الأميركية المقبلة.

انعدام الثقة

ويعود هذا الرفض إلى انعدام ثقةٍ أعمق بالوكالة الذرية نفسها. فعلى مدار العقد الماضي، اتهم المسؤولون الإيرانيون الوكالةَ مراراً وتكراراً بالفشل في حماية البيانات السرية. وتزعم طهران أن تفاصيلَ حساسةً أُطلعت عليها الوكالة الأممية ظهرت لاحقاً في عمليات جهاز «الموساد» الإسرائيلي - بما في ذلك اغتيال عددٍ من العلماء النوويين الإيرانيين.

وقد أضرّ تصوّر التسريبات بصدقية الوكالة في نظر الإيرانيين ضرراً بالغاً. فالتفتيشات التي كان من المفترض أن تضمن الشفافية أصبحت، من وجهة نظر طهران، قناةً للتجسس. وبينما تنفي الوكالة الذرية هذه الادعاءات، فإن استمرار الهجمات على العلماء النوويين قد رسّخ الاعتقاد بأن التعاون لا يجلب الأمن، بل الضعف.

ويتفاقم انعدام الثقة مع ما تعتبره طهران صمتاً انتقائياً. فقد انتقد مدير الوكالة رافاييل غروسي، إيران مراراً وتكراراً لتقييدها للمفتشين، لكنه أكد دائماً على برنامج غير العسكري.

ومع ذلك، لم يُدِن قط القصف الإسرائيلي أو الأميركي للمواقع النووية. من وجهة نظر طهران، لا يمكن لوكالة تطالب بالتعاون وتلتزم الصمت عند تعرض منشآت نووية خاضعة للحماية للهجوم أن تدّعي الحياد: وكالة دولية تسارع إلى انتقاد إيران لكنها غير مستعدة للدفاع عن حقوقها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي.

البرنامج الأكثر تفتيشاً في العالم

كما تُشير إيران إلى سجلها الطويل في التعاون. فبمعظم المقاييس، خضعت الجمهورية الإسلامية لأكثر أنظمة التفتيش صرامةً في تاريخ الوكالة الذرية.

وتخضع منشآتها النووية المُعلنة للمراقبة المستمرة، بكاميرات وأختام ومراقبة ميدانية بمستويات تتجاوز بكثير تلك المطبقة على أي دولة أخرى.

على الرغم من ذلك، لم يُخلص أيٌّ من تقارير الوكالة قط إلى أن إيران حوّلت مواد نووية لأغراض التسلح. ومع ذلك، يُستشهد في شكل روتيني برواية قنبلة إيرانية وشيكة محتملة لتبرير الضغوط والعقوبات والضربات العسكرية... هذه المفارقة تُغذي التحدي الإيراني. إذا كان البرنامج النووي الأكثر خضوعاً للتفتيش في التاريخ مازال من الممكن قصفه وفرض عقوبات عليه واتهامه بالسرية، فلن يُرضي أي قدر من الامتثال خصومها أبداً.

مازالت إيران الدولة الأكثر خضوعاً للمراقبة في تاريخ الوكالة الذرية. من بين نحو 350 مفتشاً من أكثر من 100 دولة، تم تعيين ما يصل إلى 150 مفتشاً رسمياً في إيران بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، أي ما يقارب من نصف مجمع التفتيش العالمي للوكالة.

في أي وقت، كان هناك ما بين 8 و12 مفتشاً على الأرض، يتناوبون على تغطية المنشآت التي تخضع بالفعل لتفتيش مفاجئ وغير مُعلن، ومراقبة بالكاميرات، والتحقق من الأختام.

مخاطر التصعيد

يحذر المنتقدون من أن هذا الإجراء قد يُوفر لتل أبيب غطاءً من الشرعية لتجديد الضربات. وبينما لا تحتاج إسرائيل إلى ذريعة، فإن آلية الأمم المتحدة التي تُصنّف إيران مُخالفة للاتفاق تمنحها غطاءً سياسياً.

وقد صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس أخيراً بأن إسرائيل «قامت بعمل قذر لصالح أوروبا» بقصف إيران، وهو تصريح يكشف مدى ضبابية الخطوط الفاصلة بين الدبلوماسية والعمل العسكري.

الخلاصة

تصرّ «الترويكا» الأوروبية على أن إعادة فرض العقوبات تهدف إلى الحفاظ على الدبلوماسية النووية. لكن عملياً، هي ليست أداة ضغط بقدر ما هي بادرة انحياز: مع صقور واشنطن، ومع الضغط الإسرائيلي، ومع كتلة غربية تُعرف في شكل متزايد بمعارضتها لروسيا وحلفائها.

سيعاني اقتصاد إيران، ومع ذلك، فإن طهران ليست بلا خيارات. ترسانتها من الصواريخ الحديثة المجزأة ذات الرؤوس الحربية المتعددة تمثل رادعاً قوية بما يكفي لجعل إسرائيل تفكر مرتين قبل توجيه ضربة أخرى.

وبعيداً عن ساحة المعركة، فإن علاقات إيران المتنامية مع الجنوب العالمي، إلى جانب رفض روسيا والصين وكوريا الشمالية ودول أخرى الامتثال الكامل للإملاءات الغربية، توفر لها الوسائل اللازمة للتغلب على العقوبات المتجددة. إن العزلة في الغرب لا تعني العزلة في كل أنحاء العالم.