المصدر: BBC
The official website of the Kataeb Party leader
الأربعاء 23 أيلول 2020 18:44:40
سألت صحافية رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون، خلال مؤتمر صحافي عقده قبل يومين، "إلى أين نتجه؟"، فأجابها: "طبعاً إلى جهنّم".
تستخدم عبارة "جهنّم" بكثافة في اللهجة اللبنانية، تماماً كالعديد من اللهجات العربيّة الأخرى، فتقال عند توقّع الأسوأ أو تمنّيه، ومن باب السخرية، أو لدى فقدان القدرة على إيجاد إجابة أفضل على سؤال من نوع: "أين أخوك؟".
ليست كلمة "جهنّم" بالمستجدّة في معجم الأحاديث اليومية، لكن أن يقولها رئيس الجمهورية، في سياق حالة من الانهيار أساساً، جعل وقعها على المستمعين قاسياً.
على مواقع التواصل تلقّف المغردون العبارة، فتصدّرت لائحة الكلمات الأكثر استخداماً في لبنان على تويتر لساعات. أحدهم اقتطع جزءاً من أغنية فيروز "سألتك حبيبي لوين رايحين"، وألصق به إجابة عون. وبعضهم نشر صوراً من آثار الدمار الذي خلّفه تفجير 4 آب/ أغسطس الماضي، وسأل عن أي جهنّم يتحدّث الرئيس ونحن فيها أساساً؟
في البحث عن أصل الكلمة، تشير مراجع عدّة إلى أنّها تعود إلى واد عميق في القدس، كان يطلق عليه اسم وادي الموت، وتلقى فيه جثث المجرمين، ويقال إنّه استخدم لتقديم أضاحي الأطفال حرقاً لدى بعض الديانات الوثنية عبر التاريخ.
يختلف تعريف جهنّم أو الجحيم بحسب المعتقدات الدينية، والمرويات الأسطورية والفلكلورية القديمة لدى الشعوب، لكنّ معظم الأقاصيص تتفّق على ملامح مشتركة لمكان العقاب الأخير.
تتصوّر المعتقدات الغيبية الجحيم غالباً كمكان فعليّ يقع تحت الأرض، بخلاف الجنّة الواقعة في السماء بين السحب. وذلك العالم السفلي مكان معروف بشدّة حرارته وبنيرانه التي لا تنضب، كما أنّه المكان المخصّص لمحاكمة أرواح البشر عمّا ارتكبته في عالم الأحياء.
في بعض التقاليد هو مكان للعذاب الأبدي، وفي تقاليد أخرى، هو مرحلة عبور.
في الأساطير القديمة، كما في المعتقدات المسيحية والإسلامية والهندوسية، تتألّف جهنّم من مراحل وتدرّجات وطبقات، وفي بعض الأساطير نجد فيها أنهاراً وممالك وأصنافاً من آلات التعذيب وأنواع الطعام.
مع تفشي كورونا والانهيار المالي وتفجير مرفأ بيروت، يبدو أنّ لبنان دخل فعلاً في متاهة الجحيم، لكن ذلك لا يعني أنّه بلغ قاع جهنّم أو نواتها بعد، إن اعتمدنا على توصيف "الكوميديا الإلهية".
في عمله المحلمي الشهير، تخيّل الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري رحلته إلى جهنّم، متأثراً بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، وبالأساطير الاغريقية. وفي القسم الأول بعنوان "الجحيم" (Inferno)، يصف مشاهداته في العالم السفلي، حيث يعاقب الخطأة والأشرار بحسب حدّة ذنوبهم.
هكذا، يصف دانتي النار الأبديّة على شكل 9 طبقات، في قعرها نواة. ويتخيّل أن من ماتوا غير معمّدين، بحسب المعتقد المسيحي، يقبعون في الطبقة الأولى، فيما يرمى الغشاشون في الطبقة الثامنة، والخونة في التاسعة. أمّا نواة الجحيم فمخصّصة لمن يستسلمون للشيطان.
تختلف التفسيرات لدى أتباع الأديان الابراهيمية، من علماء وفقهاء ولاهوتيين، حول تفسير جهنّم الحرفي، وإن كانت الإشارة اليها في النصوص الدينية أمراً رمزياً، أو دلالة على مكان أو عالم حقيقي، ستزوره أرواح البشر بعد موتها.
جهنّم هي النار والسعير والجحيم والهاوية وسقر ولظى في القرآن، وهي الظلمة حيث البكاء وصرير الأسنان في الانجيل. يرد ذكرها عشرات المرات في القرآن، مع إسهاب في وصف عذابات أهل النار. فهم سيأكلون من شجر الزقوم، ويشربون ماء حميم يقطّع أمعاءهم.
إلى جانب الجحيم، تؤمن المعتقدات الإسلامية بعذاب القبر الذي يطال الضالين، إذ يبقون في عذاب البرزخ بين الدنيا والآخرة، حتى يوم الدين.
وفي الانجيل، يرد ذكر النار والجحيم مرات عدّة، كحالة فرز للخطأ خارج ملكوت الله، أي بعيداً عن الغفران والخلاص الذي جاء المسيح إلى الأرض من أجله.
لا يسهب الانجيل في شرح مراحل العذاب، لكنّ فلاسفة المسيحية الكبار، من بينهم القديس أغسطينوس، أسهموا في ترسيخ الجحيم كعقيدة ايمانية. فالنار هي العقاب الأبديّ الأخير، حيث "البكاء وصرير الأسنان".
ويرى بعض دارسي الأساطير القديمة، أنّ المعتقدات الشعبيّة المحيطة بالأديان السماوية، استلهمت الكثير من أساطير الحضارات الوثنية، في تخيّل شكل الجحيم.
فعند السومريين كما عند الإغريق والمصريين، كان هناك اعتقاد بوجود عالم سفلي، تحكمه آلهة موت تتفنّن في تعذيب الأرواح. وربما تحوّلت تلك الشخصيات الأسطورية في روايات أخرى، إلى ابليس أو الشيطان، الشخصية المحورية في جهنّم كما تعرفها المعتقدات الشعبيّة اليوم.
في حضارات ما بين النهرين، حكمت الإلهة ارشكيجال مملكة الموتى، وسميّت بسيدة العالم السفلي الذي تخيّله السومريون والأكاديون مكاناً معتماً وموحشاً.
كانت ارشكيجال إلهة الموت، وشقيقة عشتار أو انانا إلهة الحب والجمال. وفي عالمها، كان عقاب الموتى مرتبطاً بحياتهم على الأرض، كما تبيّن ملحمة جلجامش. فمن لا ينجبون الأطفال، يحرمون من الطعام والشراب في عالم الأموات، ويحظى من ينجبون الكثير من الصبيان بنصيب جيد من مائدة الآلهة. كذلك، هناك مكانة خاصة على تلك المائدة لأرواح الأطفال، اذ تقدّم لهم الحلوة، ويسمح لهم باللعب.
من بين مخلوقات الجحيم في أساطير ما بين النهرين، الشيطانة لاماشتو التي كانت تخطف الأطفال الرضّع من أمهاتهم بحسب المعتقد الأسطوري.
في الاساطير الفرعونية، يحكم الاله أوزيريس العالم الآخر، أو عالم الأرواح والماورائيات. لم يكن عالم الأموات في الديانات الفرعونية مقراً نهائياً كما نفهم جهنمّ اليوم، بل هو عبور، تتخلّله محاكمة، بانتظار العودة إلى الحياة من جديد.
وفي ذلك العالم الماورائي، يعيش الأموات حياة مماثلة لتلك التي يعيشها الأحياء، فيأكلون ويشربون، ويأخذون معهم حيواناتهم الأليفة، كما تظهر حفريات القبور المصرية القديمة.
في خيال الاغريق القدماء، حكم اله الموت هاديس، شقيق زيوس، العالم السفلي. تفصّل الأسطورة الاغريقية أقسام ذلك العالم، حيث تسجن أرواح الملعونين، ويعبره نهر الستيكس الذي تطوف فوقه الأرواح في قارب، يأخذها إلى وجهتها الأخيرة. من لا يحظون بدفن لائق بحسب تقاليد الاغريق، تهيم أرواحهم إلى الأبد.
في الأديان الشرقية، يسمّى الجحيم بـ"ناركا". بحسب المعتقد الهندوسي، يتولّى اله الموت ياما، أوّل المخلوقات وصاحب الحكمة، قيادة الأرواح إلى العالم الآخر. تؤمن الهندوسية بالكارما، وبأنّ الأفعال ترتدّ على أصحابها.
هكذا، نجد العقوبات في جهنّم ياما، متناسبة مع الذنب. مثلاً يضرب السارقون حتى يفقدوا الوعي، ويقلى آكلوا اللحوم في زيت مغلي لسنوات بعدد وبر الحيوانات التي أكلوها. أما الزانون، فيجبرون على تقبيل حديد حام، ومن أفرطوا في شرب الخمور، فيشربون المعادن المذوّبة.
في المعتقد البوذي، الحياة دورة متواصل، ولادة فانتقال إلى حياة أخرى. الجحيم هو الولادة في حياة وضيعة، ولا يمكن كسر تلك الحلقات المتواصلة من الولادة، إلا ببلوغ التنوّر أو النيرفانا.
في الفنون والسينما والأقاصيص الفلكلورية، تحتلّ جهنّم مكانة كبرى، فهي أسوأ مصير قد يطال أرواح البشر، والعذاب الأبديّ الذي ينتظر من لا يحسنون التصرّف، أو يكفرون.
حتى في أفلام الكرتون مثل "توم وجيري"، نجد الكلب سبايك، عدوّ توم، وقد تحوّل في إحدى المرات إلى شيطان، يغلي القطّ المشاغب في قدر من الحمم النارية، لإساءته معاملة الفأر.
وبالنسبة للفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، فإنّ "الآخرين هم الجحيم"، كما في مسرحيته "لا مخرج" (1947) حيث يقبع ثلاثة من الأموات في غرفة مقفلة، ويتبادلون الحديث إلى الأبد. فعذاب الانسان الحقيقي بالنسبة لساتر، هو نظرة الآخرين اليه وحكمهم على أفعاله، ما يجعلهم العائق الفعلي أمام حريته وتحقّقه.