جوسلين خويري… غابت امرأة المعارك التي انتزعت الفتيات من مسرح الحرب إلى التكرّس لله!

هذا ما قالته أيقونة المقاومة اللبنانيّة المسيحيّة لمريم العذراء قبيل أصعب المواجهات مع المعتدين…
جوسلين خويري اختصرت حياتها بكلمتين “مسيرة مع مريم” لأنها سلّمت حياتها إلى قلبها الأمومي منذ البدء. حملت البشرى إلى متاريس القتال وحوّلت القلوب إلى الإيمان بالله. جُبلت بالمحبّة والعطاء، وقاتلت في سبيل الوطن، وناضلت حتى الرمق الأخير بقلب مفعم بالإيمان بالله والتسليم المطلق إلى مشيئته.
كانت جوسلين خويري أولى المقاتلات اللبنانيّات وأشهرهن، ولُقّبت بـ”أيقونة المقاومة اللبنانيّة المسيحيّة”، ولمع اسمها في مطلع الحرب اللبنانيّة عندما حملت السلاح وتنقّلت به وسط الجبهات، وأصبحت المسؤولة عن “النظاميّات” في حزب الكتائب اللبنانيّة.

رغبتُ في لقاء “الريسة” -كما ينادونها- والتعرّف إليها بعيدًا من عملي الصحافي لكن وضعها الصحّي المتأزم لم يسمح لنا باللقاء، فغصتُ في روحانيّتها الغنيّة بالأنوار السماويّة، وعدتُ إلى أرشيف مقابلاتها المنشورة عبر المواقع والصحف التي أضاءت على أهمّ مراحل حياتها.

كانت أولى المعارك الحقيقية التي خاضتها جوسلين خويري في اليوم الأخير من معركة الكرنتينا في العام 1976…

“حاربت في أسواق بيروت، واستلمت مع الفتيات متراسًا شكّل نقطة متقدّمة من الجبهة حيث عايشنا معركة صعبة. في ليل 6 أيّار 1976، تعرّضنا لهجوم غادر شنّه 100 مسلّح فلسطيني وسوري في فترة وقف إطلاق النار، وصددناه، أنا وست فتيات. بعد هذه المعركة، انتزعنا الثقة من قيادات الحزب”، أخبرت جوسلين.

 

نقطتا التحوّل في حياتها

أخبرت جوسلين خويري عن نقطتي التحوّل في حياتها: “كانت صورة العذراء رفيقة المتراس، نضيء شمعة أمامها”.

أما النقطة الثانية، فارتبطت بحدث كبير جدًّا في حياتها، عندما كانت المسؤولة عن 12 صبيّة.

“كنا في حالة وقف إطلاق نار لأن مجموعة فلسطينيّة أتت من سوريا بغية تسوية الأوضاع سلميًّا بين الأطراف المتقاتلة. نظرًا إلى الهدنة، قرّرنا تمشيط المكان فرديًّا. لما حان دوري، صعدت إلى السطح حيث حدث لي أمر غريب لم أعرف تفسيره حتى اليوم”، أخبرت جوسلين في إحدى مقابلاتها الصحافيّة.

“سمعت أناشيد وأحسست بحضور فائق الطبيعة على الرغم من أنني لم أرَ شيئًا. كل ما أعرفه أنني وجدت نفسي راكعة، أرفع الصلاة إلى مريم العذراء، وخاطبتها قائلة: “أشعر بأن هناك أمرًا ما سيحدث. إذا كان أحد ما سيُصاب، فأريد أن أكون أنا. أرجوكِ، احمي الصبايا”.

بعدما أنهيت صلاتي ونزلت من السطح، رأيت 50 شخصًا بدأوا بقصف المبنى الذي تمركزنا فيه. حاربنا نحو ست ساعات وكنا محاصرات. كان عدد المقاتلين الفلسطينيين نحو 300 شخصًا، وكنا في وضعية قتاليّة سيّئة جدًّا… اضطررت إلى أن أقفز إلى مبنى آخر كي نتمكن من وضع حدّ للهجوم، وألقيت قنبلة أدّى انفجارها إلى مقتل قائد اللواء. وفي اليوم التالي، وجدنا دمارًا كبيرًا حولنا…

هذه الخبرة جعلتني أشعر بأن الصلاة التي رفعتها كانت تنبيهًا يشير إلى حضور الله؛ كان الربّ معنا، حمانا وحرسنا في مكان متروك لا يمكن لأحد أن يصل إلينا”، أكدت جوسلين.

 

إشارات سماويّة ورغبة في التكرّس

رغبت جوسلين خويري في أن تكرّس حياتها لله، لكنها تلقّت إشارات سماويّة عدّة، فأدركت أنها مدعوّة إلى عيش رسالتها خارج أسوار الدير…

شاركت جوسلين في حرب “المئة يوم” ضد السوريين. في خلال الهدنة، بدأت بدراسة علم الاجتماع، ومن ثم، قرّرت دراسة اللاهوت لأنها لم تعد مكتفية بألا تكون “خاصة الله بالكامل”.

وراحت تبحث عن دير كي تختبر دعوتها، فجذبها الكرمل.

“في أحد الأيّام، طلب الرئيس الشهيد بشير الجميّل أن يلتقي بي.

عندما التقينا، قال لي: “بناتنا دايرين ع الطرقات، ما في حدا يتابعن”. في خلال اللقاء، بدأت أحلم بإعطاء الإنجيل إلى الشابات والشباب وتعليمهم الايمان المسيحي على حقيقته، فقبلت العرض.

في تلك الفترة، حصلت ارتدادات كثيرة وأضحت كثيرات راهبات. كنا نقوم كل يوم بمشاركة الإنجيل، وانتقلنا إلى الجبهات وتبشير الشباب على جبهات القتال، إلا أننا توقفنا عن مشروعنا في العام 1985 تعبيرًا عن عدم الرضا على الدم الذي انساب في القوات اللبنانيّة”، أخبرت جوسلين.

من الكفاح المسلّح إلى حقل البشارة

وقالت الريسة: “بعدئذٍ، تابعنا رياضات روحيّة مع الأب يوحنا خوند، ونتجت عنها فكرة “اللبنانيّة 31 أيّار”. حصلنا على الإجابة عن السؤال الذي كان الوزير الشهيد بيار الجميّل يطرحه: “أي لبنان تريد؟”

وتمثّل الجواب في “الإنسان الذي يولد معه الوطن والمرأة التي يولد معها الوطن وأبناؤه”، وأمامنا مثالان: حواء ومريم. لبنان بحاجة إلى مريم. ونحن اخترنا مريم شفيعة لنا وراعية لمسيرتنا. في العام 1988، قطعنا الوعد الآتي: “عهدي أنا اللبنانيّة أمامك يا ربّ وأمام أمّك العذراء مريم أن أعمل بوحي تعاليم كنيستك المقدّسة من أجل مجتمع إنساني أفضل ووطن حقيقي يدوم”.

عندما انتقلت جوسلين من الكفاح المسلّح إلى حقل البشارة، أكدت أن “هدفها تجلّى في خدمة لبنان بحسب قلب مريم؛ هي التراب الجديد الذي جلب لنا آدم الجديد، وهذا التراب فاض علينا”.

في العام 1995، لبّت نداء البابا يوحنا بولس الثاني، فشاركت في تأسيس جمعيّة “نعم للحياة”.

في العام 2000، أسّست جوسلين مركز يوحنا بولس الثاني للخدمة الثقافيّة من أجل “ترميم الحياة العائليّة”.

وأكملت “الريسة” مسيرتها الزاخرة بالنعم ناثرة بذور الحبّ والعطاء اللامحدود والأمل في رسالتها أينما حلّت…

 

امرأة المعارك كتبت صلاة الشهيد

في الحرب الأهليّة، حملت جوسلين البندقيّة وجلست خلف أكياس رمل المتاريس، وخاضت مواجهات مباشرة دفاعًا عن الأرض، وحلمت ورفيقاتها بلبنان مستقل يستطيع الدفاع عن أرضه وحدوده، وكن مقاتلات الصفّ الأوّل!

فاضت إشارات الربّ في حياتها، وبحثت عن الحق دومًا مردّدة: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم”، والتزمت خدمة الله من خلال لبنان والإنسان.

انقضّ “الخبيث” على جسدها المقاوم ببسالة، لكنه لم يسرق ابتسامتها الهادئة ولم يخطف سلامها الداخلي الذي رافقها حتى لحظاتها الأخيرة عندما أسلمت الروح بعد صراع طويل مع المرض في مستشفى المعونات في جبيل.

كتبت جوسلين باللغة الفرنسيّة “الأرز والصليب، جوسلين خويري امرأة المعارك”، وضمّنته اعترافات امرأة تحدّت الموت أكثر من مرّة في ساحات الحرب.

ولعلّ أثمن ما تركته لنا من كلمات نورانيّة صلاة الشهيد:

“باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.

أيها الربّ يسوع، يا شهيد الشهداء الذي فاضت محبّته على خشبة الصليب حياة جديدة للبشر، نسألك أن تحوّل دماء شهدائنا، بقوّة سرّ الفداء إلى ينابيع خلاص تروي أرضنا بالمحبّة وتثبّت شعب لبنان في رسالته الفريدة كشاهد للحريّة والسلام.

أيتها القديسة مريم، أمّ المسيح الفادي وأمّنا، يا من رافقتِ مسيرة وفائنا، استقبلي شهداءنا في ديار النور وامنحينا الأمانة الدائمة لتضحياتهم تمجيدًا للثالوث الأقدس وخلاصًا للبنان. آمين”.