حان موعد خصخصة البلد

رفضت قوى سياسية وحزبية على الدوام خصخصة القطاعات الخدماتية المختلفة، لضمان توفير خدمة جيدة للبنانيين وبسعر معقول من دون الخضوع للمنطق التجاري المحض، مع اعتبار الدولة مسؤولة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. هذا هو السبب الظاهر لرفض الخصخصة، أمّا السبب الباطن وهو الحقيقي، فهو الاستمرار في نهب الدولة وقطاعاتها، وسرقة خدماتها بالمجّان. وهو "اللامنطق" الذي أدّى بالمؤسسات والوزارات الى ما هي عليه من اهتراء وإفلاس. والسبب البارز أيضاً في رفض الخصخصة، هو التوظيف العشوائي للأزلام والمحسوبين على كل القيادات التي ثبّتت مواقعها من جراء تلك الخدمات على حساب خزينة الدولة، ومن جيوب دافعي الضرائب لمصلحة من لا يدفعون، الذين أقامت لهم المنظومة صناديق تمويلية للانتخابات والتنفيعات.

لكن الواقع كله تبدّل حالياً وعلى نحو جذري، والبقرة الحلوب تكاد تجفّ إلا من بعض قليل في دوائر مالية وعقارية وجمركية يمكن أن تدرّ أرباحاً لشاغليها والقيّمين عليها. ويمكن تلخيص الواقع الجديد بالآتي:
1– المؤسسات معطّلة ومنهارة ومفلسة، ولا مجال بعد للتوظيف فيها ولا إغراء للعمل بها بل إن العاملين ينتظرون تقاعدهم، والمتعاقدون يفتّشون عن فرص أخرى لترك العمل.

2– إن الرواتب التي يتقاضاها العاملون في الإدارة العامة والمؤسسات التابعة لها باتت غير مجدية وغير مغرية، بل إنها باتت بخسة، ولا يمكن اعتبارها تنفيعة. اللهم إلا إذا استمرّ برنامج نهب منظم لما بقي في بعض الدوائر الحكومية والمؤسسات العامة.
3– إن الخدمة التي توفرها المؤسسات باتت ضعيفة، وتكاد تبلغ العدمية، وبالتالي فإن المواطن اللبناني يجهد لتوفير خدمة أفضل منها.

4– الخدمات البديلة التي تتوافر حالياً باتت بسعر مرتفع جداً، يتجاوز بكثير ما كان يمكن أن يكون عليه من جراء خصخصة القطاعات وضمان جودة الخدمة.

5– إن الكلام عن عدم جواز تحكّم القطاع الخاص بالخدمات الضرورية للمواطن بات من الماضي، بل نكتة سمجة، لأن اللبناني يبحث عن كهرباء بديلة، ومياه بديلة، ويعلّم أبناءه في المدرسة الخاصة، وفي الجامعة الخاصة، ويقصد المستشفى الخاص، وقد أنشأ شركات خاصة للأمن والحماية، ويعتمد على النقل الخاص، وبالتالي فإن مقوّمات عيشه باتت، أكثر من كل وقت مضى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقطاع الخاص.

6– إن سد عجز الدولة لا يمكن أن يتحقّق بالخسائر الهائلة المستمرة لمؤسسات القطاع العام، وبالتالي فإن محاولات النهوض تتطلب رفع الأسعار، أو إلغاء تلك المؤسسات.

أمام هذا الواقع المستجد، والذي فرضته الظروف، والإدارة السيّئة للطبقة السياسية الحاكمة، وفساد معظم اللبنانيين، وأمام المطالبة الدولية، وخصوصاً صندوق النقد الدولي، بتخلي الدولة عن القطاعات الخاسرة، وأمام مطالبة اللبنانيين بخدمة جيدة ولو بأسعار مرتفعة، بات لزاماً التفكير جدّياً في الخصخصة وسريعاً، من دون أن تتخلى الدولة عن دورها الرقابي، وعن دعم الأكثر حاجة من مداخيل الضرائب والرسوم التي ستجنيها من قطاعات رابحة.

ولعل برنامج الخصخصة يجب أن ينطلق من الكهرباء، وبعدها الاتصالات، والمرفأ، والمطار، وغيرها... لأن التأخير في الخصخصة لأكثر من عشرين عاماً، كما التأخر في التزام مطالب صندوق النقد، وعدم القيام بأيّ إصلاحات، ستقود البلد الى القعر الأعمق والارتطام الكبير.