حرب إسرائيل في لبنان ونقاش الأرباح والخسائر

يكتسب اتفاق وقف النار في لبنان أهميته من كونه يجنّب اللبنانيين مزيداً من القتل والدمار والأهوال التي عاشوها واختبروها، بخاصة منذ شهرين ونيف، أي منذ تفجير وسائل اتصال "حزب الله"، مروراً باغتيال معظم قيادييه وضمنهم الأمين العام وخليفته، مع تدمير معظم مقارّه واستباحة المناطق التي تعتبر حاضنة له في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، بالقصف اليومي الوحشي... مع الأمل بتحوله لاتفاق يُوقف الحرب.

معلوم أن إسرائيل في تلك الفترة شملت لبنان في حرب الإبادة، التي شنتها على قطاع غزة، بسبب انخراط "حزب الله" في معركة "إسناد غزة"، ضمن مفهومه عن "وحدة الساحات"، ونظرتها إليه كطرف رئيس في محور "المقاومة والممانعة"، وكذراع إقليمية لإيران، يشكل تهديداً لها يجب التخلص منه.

على أي حال، فإن أهمية هذا الاتفاق لا تكمن في نصه فقط، الذي يتضمن تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701، القاضي ببسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية، وإنشاء منطقة خالية من السلاح بين الخط الأزرق ونهر الليطاني باستثناء الجيش وقوات اليونفيل، ومنع وجود قوات أجنبية في لبنان، والحؤول دون مدها بأسلحة.

والقصد أن أهمية هذا الاتفاق تكمن في الظروف والمعطيات والتفاعلات التي فرضته على مختلف الأطراف، المعنيين مباشرة، أو غير مباشرة، بغض النظر عن ادعاءات كل طرف، وهي مختلفة كلياً عن ظروف طرح القرار المذكور قبل 18 عاماً (2006)، وبخاصة بالنسبة لمكانة "حزب الله" وإيران والنظام السوري وإسرائيل والولايات المتحدة.

ففي مراجعة أولية للائحة الأرباح والخسائر، بعيداً من مصطلحي الانتصار والهزيمة، فإن إسرائيل تحتسب أنها حققت من ذلك الاتفاق، إنجازات تتضمن سحب "حزب الله" مقاتليه وأسلحته إلى شمال نهر الليطاني، بما يضمن أمن البلدات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان، ومنع واردات الأسلحة إليه، حتى من المعابر مع سوريا، مع فك الارتباط بين مساري لبنان وغزة، وإسقاط فكرة الحزب عن إسناد غزة ووحدة الساحات (وهو ما أقر به الأمين العام الحالي لـ"حزب الله" نعيم قاسم). ولعل النقطة الأبرز هنا هي التزام الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل بكبح أنشطة إيران في لبنان، بمنع نقل الأسلحة أو أي دعم منها للحزب. أي أن إسرائيل نجحت عبر الاتفاق ليس بفصل الحزب عن غزة، فقط، بل أيضاً بفصل "وحدة الساحات"، وفصل الحزب عن إيران، أو عدم تمكين إيران من مده بالدعم بمختلف أشكاله.

أما من جهة لائحة مكاسب "حزب الله" فتتمثل بإثبات قدرته على منع إسرائيل من التخلص منه نهائياً، رغم الضربات الكبيرة والقاسية التي تعرض لها، بدليل مواصلته الاشتباك والقصف، والحفاظ على اعتباره بمثابة رقم لا يمكن تجاوزه في لبنان، في ما يتعلق بقرار الحرب أو ما بعد الحرب.

على ذلك، بديهي أن يرى كل واحد من الطرفين نفسه منتصراً، في واقع يبدو فيه شعب لبنان الخاسر الأكبر، لا سيما في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت، علماً أن استمرار "حزب الله" بالاشتباك والقصف، هنا أو هناك، طوال الفترة السابقة، لا يغطي حقيقة تعرضه لضربة هائلة ومؤثرة جداً في قيادته وهيكليته ومصادر قوته، وفي الضرر الهائل الذي تعرضت له بيئته الحاضنة، وتالياً، فإن استمرار الحزب بالقتال لا يعادل، ولو نسبياً، القوة النارية الهائلة والمدمرة لآلة الحرب الإسرائيلية.

مثلاً، تكبد لبنان خسائر بشرية ومادية هائلة، ضمنها (بحسب إحصاءات وزارة الصحة اللبنانية) مصرع 3768 لبنانياً (أي أكثر من ضعفي ضحايا حرب 2006 من اللبنانيين)، وجُرح 15699 لبنانياً منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أغلبيتهم في الـ70 يوماً التي سبقت الاتفاق، فيما تفيد الإحصائيات الإسرائيلية بمصرع 118 إسرائيلياً نتيجة هجمات "حزب الله" (45 مدنياً و73عسكرياً). أيضاً، فقد نجم عن القصف الإسرائيلي تدمير أكثر من 99 ألف وحدة سكنية جزئياً أو كلياً، معظمها قرى وبلدات في الجنوب، مع نزوح حوالي 1,5 مليون من اللبنانيين، من المناطق المستهدفة، مقابل ما بين 60 إلى 80 ألف إسرائيلي نزحوا من أماكن سكنهم شمالي إسرائيل على حدود لبنان، مع فارق مهم، فهؤلاء تهتم دولتهم بهم، بتأمين المأوى ودفع المرتبات واستمرار خدماتهم الصحية، وضمان التعويض عليهم جراء أي خسائر في الممتلكات، الأمر الذي يفتقر إليه النازحون اللبنانيون وفلسطينيو غزة.

ما يفترض ملاحظته هنا، أولاً، أننا إزاء وقف مؤقت مدته 60 يوماً، لإطلاق النار أو للأعمال القتالية، إذا لم يُخرق، لسبب أو لآخر، أي أن لبنان ليس إزاء اتفاق كامل أو نهائي مع إسرائيل يُلزم بإنهاء حربها على لبنان، لأن ذلك يستلزم اتفاقاً سياسياً ناجزاً، ما زال الطرفان المعنيان (إسرائيل و"حزب الله") يعاندان الوصول إليه، وفقاً لأولويات كل منهما وخياراته ومراهناته وقدراته، في الظروف الحالية، لا سيما أن كل طرف يعتبر ذاته منتصراً على الطرف الأخر. ثانياً، الاتفاق السياسي المفترض يستلزم عوامل دولية وإقليمية مناسبة، في شأن الترتيبات الجديدة في الشرق الأوسط، وهي ما زالت غير متوفرة، أو قيد التحضير. ثالثاً، هذا الأمر يمس مكانة إيران في الإقليم، ورؤيتها لمكانتها في المنطقة على ضوء التطورات الجديدة، وتأتي ضمن ذلك رؤيتها لمكانة "حزب الله" الذي تعتبره رصيداً لأمنها القومي، وكالذراع الإقليمية الأنشط والأقوى لها في الخارج. رابعاً، من المشكوك فيه انسحاب إسرائيل من المناطق التي دخلت إليها في لبنان، جنوبي الليطاني قبل ضمان حدودها الشمالية، وإعادة سكانها بالكامل إلى بلداتهم، وقبل التأكد من نزع سلاح "حزب الله" في تلك المنطقة. خامساً، يتوقف الأمر على الترتيبات الجارية في لبنان، لجهة إعادة ترتيب النظام اللبناني، بانتخاب رئيس جديد، وربما انتخابات نيابية، وتالياً القدرة على استيعاب "حزب الله" بالشكل الذي سيتموضع عليه بعد الحرب، كحزب عسكري، كمشكلة للبنان وحده، أو كحزب سياسي يتكيف مع النظام السياسي الجديد في لبنان، فكل وضعية تختلف عن الأخرى؛ وإن كان حديث نعيم قاسم عن العمل ضمن إطار الطائف، والمساهمة في انتخاب رئيس يمكن أن ترجح ذلك، إذا كان يعبر عن أكثرية في الحزب، وفي حال أن كلامه ناجم عن توافق مع إيران، التي ظهر أنها تنأى بنفسها عن الحرب مع إسرائيل، وعن أي مواجهة مع الولايات المتحدة، وضمن ذلك عن كل ما عُرف بـ"وحدة الساحات". باختصار من الصعب معرفة إلى أين سيذهب لبنان من هنا؟