"حرب المال" تشتدّ... هل يتفادى لبنان اللائحة السوداء؟

يخطئ من يعتقد أن الخطر الداهم على لبنان محصور باحتمال اندلاع حرب عسكرية، إذ أن الحرب الأخطر اليوم هي حرب المال. فالمشهد المالي، بتعقيداته واستحقاقاته وضغوطه الخارجية، لا يقلّ خطورة عن أزمة الحدود والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، بل ربما يتجاوزها بعمق المخاطر ما لم تتم معالجته سريعاً.

ولا يستخفّن أحد بما يمكن أن يواجه لبنان في المدى القريب ما لم ينجح بإيجاد مخارج آمنة من حقل الألغام الذي يتحرّك وسطه، وأي تأخير في الإصلاحات أو إخفاق في الاستجابة للشروط الأميركية، سيرتّب تداعيات قد تشل قدرة البلد على التعامل مع العالم الخارجي.

وفي خضم مساعيه للخروج من اللائحة الرمادية وتجنب الانزلاق إلى اللائحة السوداء، يجد لبنان نفسه مضطراً إلى تحديث أدواته الرقابية والمالية قبل انتهاء مهلة الستين يوماً التي حدّدها وفد الخزانة الأميركية نهاية العام الحالي. فمن دون هذا التحديث، قد يجد البلد نفسه أمام شلل كامل في علاقاته المصرفية الدولية، وانكماش أكبر في اقتصاده النقدي، ومخاطر جدية على استقرار قطاعاته المالية.

 

حجم المخاطر

يشكّل "قطع قنوات تمويل حزب الله" العنوان العريض والحاسم الذي وضعه الجانب الأميركي أمام لبنان بلا هوامش للنقاش أو المساومة، تحت طائلة "ترك لبنان لمصيره" بكل ما تعني هذه العبارة من رسائل تهديد مباشرة وغير مباشرة. وبفعل هذا الموقف الصارم، تبدو مهلة الستين يوماً التي مُنحت للسلطات اللبنانية أكثر من مجرد موعد زمني، إنما تشكّل إنذاراً يجب التعامل معه بجدّية عالية.

ويبقى السؤال الأهم: ما حجم المخاطر التي قد يواجهها لبنان بعد انقضاء مهلة الـ60 يوماً إذا عجز عن تحقيق تقدم ملموس في وقف تدفق الأموال من إيران إلى حزب الله؟ وهو سيناريو يبدو مرجحاً، بالنظر إلى تعقيدات الملف وتشعّب مساراته. وهل ثمة مخاوف من إدراج لبنان على اللائحة السوداء بعد اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF؟

يقول أحد النواب الذين حضروا أحد لقاءات الوفد الأميركي والمتابعين للملف المالي عن كثب، إن مهلة الشهرين جدية جداً والوفد الأميركي طالب باتخاذ إجراءات نحن اتخذناها بالفعل. ويرى النائب في حديث إلى "المدن" أن الوقت ضيق وعلى الحكومة والمصرف المركزي إيفاد وفد إلى واشنطن مصحوباً بلائحة بالإجراءات والقرارات التي تم اتخاذها وتصب في خانة المطالب الأميركية، لمحاولة تجنيب لبنان نتائج وخيمة. ويجزم المصدر بأن النتائج الوخيمة المحتملة قد تُترجم في إدراج لبنان على اللائحة السوداء ما لم يتم العمل بجدّية مع المطالب.

في المقابل، يستبعد مصدر مالي رفيع إدراج لبنان على اللائحة السوداء بشكل متسرّع "فهذا الأمر يعني بمنطق السياسة خسارة لبنان نهائياً وهو ما لا يسعى إليه الجانب الأميركي"، ولكن في الوقت عينه يرى المصدر المالي أنه لا يمكن التساهل مع التهديدات. ويبقى احتمال إدراج لبنان على اللائحة السوداء بعد مهلة الستين يوماً مطروحاً، لكن يجب فهم السياق بدقة.

 

أبيض أو أسود

فالمقاربة الأميركية مؤخراً اتسمت بقدر كبير من القساوة، وقد بدا جلياً أن الوفد الذي زار بيروت لم يأت لمناقشة الأفكار أو الاستماع إلى وجهات النظر اللبنانية، بل جاء حاملاً تعليمات واضحة بهدف إبلاغ موقف حازم، لا فتح حوار. ويمكن القول إن الطريقة التي تحدث بها أعضاء الوفد اتسمت بلغة "أبيض أو أسود"، وكأنهم لا يرون تعقيدات الواقع اللبناني السياسي والاجتماعي.

ولا بد هنا من العودة إلى ما قبل الزيارة. فقد ظهرت إشارات توتر من خلال المواقف التي صدرت عن المبعوث الأميركي توم براك، والتي عكست نقاشات داخلية في دوائر القرار الأميركية، ما يؤكد أنّ المزاج الأميركي ليس مريحاً. وعندما حضر وفد وزارة الخزانة إلى لبنان كان واضحاً أن الأميركيين يعتبرون أن لبنان "لا يقوم بواجباته" سواء في ملف تسليم السلاح، أو في مسار الإصلاحات، أو في ملفات عدة يعتبرون أن تقدّمها بطيء، بالرغم من أن المسؤولين اللبنانيين قدّموا شروحات تقنية وسياسية دقيقة حول ما أُنجز فعلاً. مع ذلك، ظل الوفد الأميركي متشبثاً بموقفه الحاد.

وتزامن الضغط الأميركي أيضاً مع تضخيم موضوع بيان الجيش اللبناني الذي استخدم مصطلح "العدو الإسرائيلي"، مع أن هذا الاستخدام تكرّر مئات المرات سابقاً. لكن توقيت رد الفعل الأميركي ينسجم مع دخول لبنان في مهلة الستين يوماً، حيث يشتدّ الضغط ويقرأ كل تفصيل من زاوية سياسية ضاغطة.

 

اللائحة السوداء

وعلى الرغم من مباشرة لبنان اتخاذ إجراءات عملية على الأرض لضبط حركة الأموال داخل لبنان، وبين البلد والخارج، وكذلك حركة الذهب والمعادل الثمينة من الخارج إلى الداخل، يبقى التقويم الأميركي للحكومة اللبنانية بأنها "فشلت" في اتخاذ الإجراءات المطلوبة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى قرارات مالية متشدّدة تجاه لبنان، ليس مستبعداً أن تبلغ اللائحة السوداء.

وقد تلجأ الولايات المتحدة إلى تشديد العقوبات وتوسيعها لتشمل مؤسسات وأفراداً متعاونين مع حزب الله وليس فقط المنضوين تحت سقفه، إضافة إلى فرض تدابير مالية إضافية من الخزانة الأميركية تضر بسمعة لبنان وتحد من حصوله على دعم أو قروض دولية.

ويذهب المصدر المالي إلى ما هو أكثر خطورة من العقوبات على الافراد، ويقول "قد تُقلص البنوك المراسلة تعاونها مع المصارف اللبنانية، وهو ما يعقد التحويلات ويزيد كلفة الخدمات المالية ويعرقل عمليات الاستيراد والتصدير". ويمهّد كل ذلك لاحتمال إدراج لبنان على قوائم FATF السوداء، بما يعني عزلة مالية أوسع وضغطاً سياسياً داخلياً لتنفيذ إصلاحات صعبة تتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب بوجهتها المالية والسياسية.

 

ما الذي يمكن تحقيقه؟

عملياً، ما الذي يمكن أن يحقّقه لبنان خلال ستين يوماً؟ ثمة خطوات إصلاحية بدأت بالفعل، وقد حقق لبنان تقدّماً محدوداً في الإصلاحات المالية عبر الدفع نحو معالجة الفجوة المالية قبل نهاية العام بحسب ما أكد حاكم مصرف لبنان كريم سعيد في مؤتمر بيروت واحد، إلى جانب تعزيز الرقابة على القطاع المصرفي للحد من اقتصاد الكاش، في إطار مساعٍ لإعادة الثقة بالنظام المصرفي، ويضاف كل ذلك إلى تشديد التدقيق على دخول الذهب الخام عبر المطار، وتفعيل الرقابة في الجمارك. كما بدأ تطبيق نموذج المطار على مرفأي بيروت وطرابلس، وهو ما شرحه رئيس الحكومة نواف سلام للوفد الأميركي بوضوح، مؤكداً أنّ هذه الإجراءات ستنفّذ سواء بطلب أميركي أو من دونه.

لكن الأميركيين يعتبرون أن وتيرة العمل لا تزال بطيئة، خصوصاً في مكافحة الاقتصاد النقدي لاسيما لجهة "القرض الحسن" والتعاملات المرتبطة بالذهب والعملات المشفرة. ويرى المصدر أن أفضل السيناريوهات التي يمكن للبنان اعتمادها هو تسريع هذه الإجراءات وإظهار تقدم ملموس.

من ناحية أخرى، هناك طرح مهم أشار إليه عدد من الشخصيات التي التقت الوفد الأميركي، وهو الدعوة إلى تشكيل وفد لبناني رسمي، يضم حاكم مصرف لبنان ومسؤولين ماليين، للتوجه إلى واشنطن لشرح ما يقوم به لبنان، وما سيقوم به، ضمن خطة واضحة ومفصلة. هذا المسار قد يخفف من احتمالات الذهاب نحو اللائحة السوداء، لأنّ ترك الصورة ملتبسة يسهّل على الجانب الأميركي التشدّد في دفع الأمور نحو خطوات قاسية.

بالمحصلة، يمكن القول إن السيناريو الأسوأ قابل للتفادي، لكنه يتطلب عملاً سريعاً وفعلياً، إثباتاً للأميركيين بأنّ لبنان يتحرك وليس في موقع المراوحة. والأهم هو تقديم خطة واضحة في المهلة المحددة، والانخراط في تواصل مباشر لتفادي دخول لبنان في مرحلة قد تكون الأخطر على الإطلاق.