"حزب الله" يفشل في قراءة المزاج الداخلي لإسرائيل ويستمرّ باستراتيجية الوقت

بعد مضي أكثر من شهر على انطلاق عملية "سهام الشمال" الإسرائيلية في لبنان، وانتشار عشرات أفلام الفيديو والصور مظهرةً نتائج الهجمات المتبادلة بين "حزب الله" وإسرائيل وما وجدته القوات الإسرائيلية المتوغلة في الأراضي اللبنانية، تتوضح الصورة أكثر عن الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية لكل طرف. فحسب إجماع الخبراء، فإن إسرائيل تستعدّ ومنذ سنوات للحرب التي تشنها ضدّ "حزب الله". كما أظهر الحزب عبر ترسانته العسكرية الكبيرة، وأداء مقاتليه على جبهات القتال الأمامية، أنه كان يتجهز منذ حرب تموز ٢٠٠٦ للحرب ضدّ إسرائيل. إنما بات واضحاً أن استراتيجية إسرائيل لهذه الحرب لم تكن بحسبان الحزب الذي تلقّى ضربات قوية وما زال في حرب مفتوحة لا أحد يعرف فعلاً متى وكيف ستنتهي.

فإذا ما راجعنا أشرطة الفيديو للمواقع التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي، نجد مئات الصواريخ المضادة للدروع التي تتضمن الحديث منها والموجّه بالليزر، مثل الكورنيت الروسية الصنع وشبيهاتها الإيرانية الصنع. وكثرة الأنفاق وتشعبها، تظهر استغلالاً جيداً من قبل الحزب لطبيعة الأرض للتصدّي لهجوم من قبل قوات مدرعة ومؤللة كالتي نفّذتها القوات الإسرائيلية عام ٢٠٠٦ وفي اجتياح عام ١٩٨٢. فاستراتيجية الحزب هي تكبيد القوات الإسرائيلية خسائر كبيرة في آلياتها ومدرعاتها وجنودها في عمليات التحام على محاور عدة تجبر القيادة الإسرائيلية على وقف الحرب بأسرع وقت ممكن والتراجع.

كما قام الحزب ببناء ترسانة كبيرة من الصواريخ، مثل الكاتيوشا، الغراد، إلى العيارات الكبيرة وصولاً للصواريخ الباليستية، لتتمكن من استهداف أي مكان في إسرائيل وبكميات كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تجهّز الحزب بصواريخ تكتيكية للدفاع الجوي ولمهاجمة السفن الإسرائيلية. وأهم ما استثمر فيه الحزب هو ترسانته من المسيّرات الهجومية الإيرانية. تُعتبر الجبهة الخلفية نقطة ضعف إسرائيل الأهم، والتمكن من تهديدها بشكل جدّي يضع الحكومة الإسرائيلية في موقف صعب يمنعها من الاستمرار في حرب طويلة.

وبناءً على ما تقدّم، يمكن الاستنتاج بأن استراتيجية الحزب كانت تعتمد على مواجهة حرب خاطفة من جانب إسرائيل تقودها الألوية المدرعة، وغارات من الجو وقصف من البر والبحر. واعتمدت على عامل الوقت من منطلق أن المجتمع الإسرائيلي لا يطيق الحروب الطويلة. كما اعتمدت على عامل كثافة النيران لإلحاق خسائر كبيرة في صفوف الجنود على الجبهة والمدنيين في الداخل، من أجل إرغام الحكومة الإسرائيلية على وقف الحرب.

لكن الرياح لم تجرِ كما تشتهي السفن؛ فإسرائيل كانت تراقب ما يقوم به "حزب الله" على مدى السنوات الماضية. بل أكثر من ذلك، فلقد اخترقته أمنياً واستخباراتياً بشكل واضح، بحيث باتت استراتيجيته وخططه واضحة للقيادة الإسرائيلية التي وضعت استراتيجية وتكتيكات مضادة لها، وتعمل على تنفيذها منذ تفجيرات "البيجرز". ففي وقت كان الحزب يتحدث عن قواعد اشتباك، كانت إسرائيل تغتال قيادات قوات النخبة وترصد تحركات مقاتليه. وما أن قررت نقل الحرب من غزة إلى لبنان عمدت لتدمير جزء كبير من مخازن الصواريخ ومراكز القيادة والسيطرة، واغتيال غالبية قيادات الصف الأول والثاني والثالث. كما قامت بالفترة ذاتها بتدمير مصنع الصواريخ الثقيلة الأساسي للحزب في بلدة مصياف في سوريا، بالإضافة للعديد من مخازن الأسلحة داخل سوريا.

بعد ضربات كبيرة هزّت معنويات الحزب وجمهوره، قامت إسرائيل بشيء لم يتوقعه الحزب، وهو شن عملية برية بأسلوب الأرض المحروقة. فعوض أن تُرسل سلاح المدرعات وتتبعه قوات المشاة المؤللة، زجّت إسرائيل بفرق المشاة مع القوات الخاصة، مدعومة بالطيران وسلاح المدفعية. وكانت المدرعات الإسرائيلية تتقدّم فقط بعد سيطرة المشاة على مناطق أساسية تمنع تهديدات الصواريخ لها. فكثافة النيران الإسرائيلية مكّنت المشاة من الوصول إلى مداخل الأنفاق والبلدات الحدودية والسيطرة عليها بروية ومن دون تسرّع من أجل إبقاء عدد الإصابات متدنٍ في صفوف الجنود والآليات. كما أن سلاح الدفاع الجوي للحزب لم ينجح ضدّ الطائرات الإسرائيلية بسبب فقدان الحزب لرادارات توفّر إنذاراً مبكراً. فإسرائيل دمّرت الرادارات كافة التي يمتلكها الحزب والحرس الثوري في سوريا والتي كانت تغطي الأجواء اللبنانية. كما أن إسرائيل وجّهت ضربات دقيقة دمّرت ترسانة الحزب من الصواريخ المضادة للسفن.

أما بالنسبة للجبهة الداخلية، فإن منظومة الدفاع الصاروخي المتعددة الطبقات التي بنتها إسرائيل على مدى عقود، قلّلت بشكل كبير من فعالية صواريخ الحزب. ومكّنت المساعدات الأميركية إسرائيل من توفير مخزون كبير من صواريخ القبة الحديدية التي حمت المدن والقواعد العسكرية والمنشآت الحيوية بشكل كبير ضدّ الهجمات الصاروخية لـ"حزب الله". كما أن تمكن إسرائيل من تدمير جزء كبير من ترسانة الحزب ومنصات الإطلاق وضرب المعابر مع سوريا، خفف بشكل كبير من كثافة نيران الحزب. فكان يتوقع أن يطلق الحزب ما لا يقلّ عن 1000 صاروخ يومياً، لكنه الآن يطلق بين 100 و200 صاروخ يومياً وعدداً من المسيّرات الانتحارية لا يتجاوز عددها الـ20. فهناك تراجع واضح في قدرات الحزب، ومعظم الرشقات الصاروخية التي يُعلن عنها في بياناته اليومية غالباً لا تصيب أهدافها، بل إما يتمّ اعتراضها أو تسقط في أماكن مفتوحة. وبالتالي، فإن خسائر الجبهتين الداخلية والأمامية محدودة ومقبولة لإسرائيل.

فشلت قيادة "حزب الله" في قراءة المزاج الداخلي لإسرائيل بعد هجمات ٧ تشرين الأول (أكتوبر) وقلّلت من قدرة وتصميم الحكومة الإسرائيلية على الاستمرار في الحرب لفترة طويلة. كما لم يتحضر الحزب لعملية إفراغ القرى والمدن واستهداف المستشفيات التي قامت بها إسرائيل، مما أوجد مشكلة اجتماعية حادة، وعزل المقاتلين على الخطوط الأمامية مع قدرات اتصال محدودة. وضرب إسرائيل لمنشآت الحزب المالية والاقتصادية وضعت الحزب أمام حرب شاملة ووجودية. وفي حين تشن إسرائيل 100 غارة يومياً على لبنان وتزيل قرى جنوبية من الوجود، يستمر الحزب باستراتيجية الوقت، متأمّلاً إنهاك إسرائيل وهزيمتها.