المصدر: المدن
الاثنين 2 آذار 2020 06:56:26
التعمّق في المسار البترولي الذي مرّ به لبنان منذ سنة 2013، يكشف أن هذا الحدث ليس سوى نتاج مسار تاريخي متكامل، عنوانه التفريط بالثروة الطبيعيّة اللبنانيّة، لمصلحة الشركات الأجنبيّة تحديداً. أمّا على مستوى الانهيار الحاصل، فهناك ما يكفي من مؤشّرات تدل على أن العثور على كميّات تجاريّة من الغاز أو النفط في هذه الظروف الماليّة والإقتصاديّة، سيكون مسألة تدعو إلى قلق بالغ، على عكس ما يعتقد كثيرون.
بدأ لبنان بإعداد الإطار التشريعي لتنظيم عمليّة استكشاف الموارد البتروليّة وإستخراجها في مناطقه الإقتصاديّة الخالصة، مع إقرار "قانون الموارد البتروليّة في المياه البحريّة" سنة 2010. في ذلك الوقت، اعتمد القانون نموذج تقاسم الإنتاج. فنصّ على تأسيس شركة بترول وطنيّة عند العثور على كميّات تجاريّة من النفط أو الغاز.
ويقوم هذا النموذج - تعتمده اليوم الغالبيّة الساحقة من الدول النفطية - على تعاقد الدولة مع الشركات الأجنبيّة التي تتحمّل كلفة أعمال الإستكشاف والتنقيب ومخاطرها. ولا تتحمّل الدولة أي كلفة أو أعباء في هذه المرحلة، وتدخل شريكاً كاملاً عند نجاح أعمال التنقيب والانتقال إلى مرحلة الإستخراج. مع العلم أن هذا النوع من العقود يسمح بإبقاء العبء التشغيلي والإداري على عاتق الشركات الأجنبيّة، لتفادي الهدر والفساد الحكوميّين، مع الحفاظ على مشاركة الدولة لحفظ عائداتها من النفط والغاز، وسيطرتها على ثرواتها الطبيعيّة.
لكنّ المراسيم التطبيقيّة التي أقرّتها السلطة لاحقاً لتنظيم دورة التراخيص الأولى - التي أفضت إلى حفر البئر اليوم - انقلبت على هذا القانون، ونصّت على عدم دخول الدولة شريكاً في هذه الدورة. تحججت السلطة لاحقاً بعدم وجود كميّات تجاريّة حاليّاً لتأسيس شركة وطنيّة والدخول كشريك. لكنّ المشكلة في المراسيم التطبيقيّة التي نظّمت دورة التراخيص الأولى أنّها لم تحفظ أساساً حصّة الدولة كشريك من خلال شركة كهذه، في حال العثور لاحقاً على الكميات التجاريّة في البلوكات التي عرضت للتلزيم. وبالتالي، فحتى لو عثر على كميات تجارية من النفط والغاز في هذه البلوكات، فلن تتمكّن الدولة من المشاركة فيها من خلال شركة وطنيّة تتأسس لاحقاً.
وتكمن إشكاليّة هذه الصيغة في أنّ لبنان سيفقد القدرة لاحقاً على التحكّم بتفاصيل عمليّات الاستخراج والخدمات المرتبطة بها يومياً ومباشرة، وخصوصاً المنفعة التي تعود على السوق المحلّي من هذه الاستثمارات. أمّا الأهم فهو تقاضي الدولة من خلال هذا النموذج عوائد أقل بكثير من تلك التي كان يمكن تحقيقها من خلال اعتماد نماذج تقاسم الإنتاج التقليديّة، والمتبعة في الغالبيّة الساحقة من دول العالم التي تدخل عادةً شريكاً في عمليّات الاستخراج.
مراسيم غامضة
استعيض عن مشاركة الدولة بمشاركة الشركة المشغّلة الأجنبيّة في كل بلوك لشركات غير مشغّلة، وفقاً للنموذج المعتمد من المراسيم التطبيقيّة. وجرت دورة التراخيص بعارض وحيد في كل من البلوكين رقم 4 و9، من دون أي منافسة. ولم يعلم اللبنانيون حتّى اليوم كيف اختير هذا النموذج الاستثماري من دون أي نقاش شفّاف أمام الرأي العام، خصوصاً أنه يخالف الطريقة المتبعة في القطاع في الغالبيّة الساحقة من البلدان النفطيّة. وفي الواقع، مازال اللبنانيون لا يعرفون هويّة الأشخاص الذين صاغوا المراسيم - وهي بمئات الصفحات - قبل أن ترسل إلى مجلس الوزراء للمصادقة عليها، وكذلك من دون أي نقاش أمام وسائل الإعلام.
هذا المسار الملتبس، هو تحديداً قصّة دورة التراخيص الأولى، التي أفضت إلى البئر التي تحفرها شركة توتال في البلوك رقم 4 اليوم. وبالتالي، لا شيء في الحدث الراهن يوحي بأن لبنان وضع يده فعليّاً على ثرواته الطبيعيّة بالشكل الأنسب. بل يمكن القول إنّ هذه المناسبة تتمّة لمسلسل الاستهتار بهذه الثروة. وفي الوقت الراهن، ليس من مؤشّرات تدل على نيّة السلطة إعادة النظر في المسار السابق. فالعمل جار على قدم وساق لتلزيم المزيد من البلوكات، من دون أي نقاش واضح، أو إعادة نظر علنيّة وشفّافة في النموذج المتبع.
لماذا يجب أن نخاف؟
المسألة الأخرى التي جرى الإضاءة عليها بالتزامن مع بدء أعمال الحفر، هي أهميّة الحدث من الناحية الإقتصاديّة والماليّة، في ظل الأوضاع التي يعاني منها لبنان اليوم. لكن المعلوم للجميع أن عمليّة البدء باستخراج الغاز والنفط، لن تبدأ قبل مضي مدة لا تقل عن 8 سنوات في أقل تقدير، حتّى لو عثر على كميات تجاريّة. وذلك يعود تحديداً إلى طبيعة العمليّات المطلوبة قبل الوصول إلى مرحلة الاستخراج. وعائدات الغاز لن يكون لها أي تأثير في تأمين تدفّقات ماليّة خارجيّة، في ظل الانهيار المالي الحاصل حاليّاً.
لكنّ هناك ما يدعو للقلق، لناحية إمكان العثور على كميّات تجاريّة من الغاز أو النفط، في هذه الظروف، حتّى لو لم تستخرج قبل 8 سنوات. فحتّى اللحظة، لم يقر المجلس النيابي قانون الصندوق السيادي، بحجّة امتلاك لبنان الكثير من الوقت قبل توفّر العائدات من القطاع. لكن عدم إقرار مشروع قانون الصندوق السيادي في هذه الظروف الصعبة ماليّاً، وبصيغة واضحة تنص على ضوابط إدارة وإستعمال عائدات القطاع من خلال الصندوق لاحقاً، تثير اليوم المخاوف من إمكان ربط عائدات القطاع في المستقبل بالقروض التي قد يحتاجها لبنان في الوقت الراهن للخروج من الانهيار. مع العلم أن لبنان ينخرط اليوم في مسار الدعم التقني من صندوق النقد الدولي. وهذا المسار يمهّد تلقائيّاً للحصول على الدعم المالي مقابل الالتزام بالشروط التي قد يضعها الصندوق خلال تقديمه الدعم التقني.
في الواقع، ينبغي الإشارة إلى أن قانون الموارد البتروليّة في المياه البحريّة، نصّ على تأسيس الصندوق منذ العام 2010، لكنّه لم ينص على أي طريقة لإدارة هذا الصندوق، أو كيفية التصرّف بالعائدات التي تودع فيه. وتريّث المجلس النيابي في تداول المسألة لغاية سنة 2017، حين عرقلت التجاذبات السياسيّة إقرار مشروع القانون. ومنذ ذلك الوقت، مازال اللبنانيّون ينتظرون إقرار القانون الذي يستطيع تشكيل صك تشريعي يفرض ضوابط صارمة تحمي إيرادات القطاع، وتمنع ربطها بأية شروط يمكن أن تضعها الجهات الدوليّة التي يمكن أن تقدّم الدعم للبنان في فترة الإنهيار المالي الحاصل اليوم.
الريبة بدل الاحتفال
في الخلاصة، يمكن القول إن تاريخ لبنان في القطاع البترولي لا يبشّر بالخير، خصوصاً من ناحية فقدان الشفافيّة في التعاطي مع الملف، وإبعاد مداولات بالموضوع عن أنظار الرأي العام اللبناني.
هذا المسار يمنعنا اليوم من الإحتفال بحفر البئر الاستكشافيّة. وهو نفسه المسار الذي يثير ريبة اللبنانيّين، في حال العثور على كميات تجاريّة. فالانهيارالمالي القاسي، وذهاب لبنان إلى صندوق النقد الدولي، مع كل ما يعنيه ذلك من مخاطر على الثروات السياديّة الوطنيّة، يعنيان ببساطة أنّ هناك ما يكفي من العوامل التي تجعلنا نخشى من رهن هذه الثروة الطبيعيّة، حتّى قبل إستخراجها.
البديل من هذا المسار هو الإنتقال إلى نمط مختلف تماماً في التعاطي مع القضايا المرتبطة بهذا القطاع. فالشفافيّة، وفتح الأوراق أمام الرأي العام، والتداول العلني في نماذج الاستثمار المطروحة، والبدائل المحتملة، كلّها أبواب كافية ليطمئن اللبنانيون على مستقبل الثروات الطبيعيّة في بلادهم. فالثروات الطبيعيّة الوطنيّة لا تُقاس أهميّتها، ولا يُقارب دورها، بالنظر إلى الظروف الماليّة الراهنة. ولا ينبغي ربطها بهذه الظروف، بل تُقاس في كونها ثروة تخص الأجيال المقبلة، وينبغي على لبنان التعاطي معها من هذه الزاوية فقط.