المصدر: النهار
الكاتب: طوني عطالله
الخميس 17 تموز 2025 11:48:48
تبني المجتمعات ذاكرة جماعية حيّة كعنصر أساسي للاستقرار والسلم الثابت وللاتعاظ من التجارب الكارثية منعاً لتكرارها. انطلاقاً من هذا العنصر ومن التجارب والخبرات المكتسبة، يمكن تصنيف اللبنانيين إلى فئتين: واحدة عايشت الحروب وأصيبت بصدمة عززت وعيها، وأخرى بلا ذاكرة تشكل خطراً على لبنان لا يقلّ عن خطر الصهيونية وتحتاج إلى مزيد من الخسائر والمصائب لتتعلّم.
يستمر مثقفون لبنانيون قابعون في مراتع النسيان ينتمون مع طبقة سياسية إلى مسار خارج الزمن، يمارسون الدعارة في السيادة، وبعضهم يفاخر بالعمالة للخارج مغلفاً إيّاها زوراً بـ"وطنية" مخادعة.
حين يدرس لبنانيون الحياد يتنطّح البعض لتسويق ما يسمّونه تعقيدات وصعوبات تبلغ من وجهة نظرهم حدّ الاستحالة، فيطرحون تعديلات دستورية وصعوبة الحصول على اعترافات دولية وقضايا الاحتلال والاستقواء الخارجي بالمال والسلاح لفئة داخلية، بالإضافة إلى سلسلة لامتناهية مما يعتبرونه عوائق غير قابلة للتخطي.
إن حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية هو أولاً التزام ذاتي على عاتق اللبنانيين وقادتهم ومسار تاريخي ليس بجديد، بل الجديد منذ 2016 هو الإمعان في تخريب علاقات لبنان بأشقائه العرب واستفزازهم تارةً، وطوراً بتهديد أصدقائه في الغرب واستكمال عزل لبنان عن العالم لمصالح إقليمية لا علاقة للبنان بها، واستعادة أسوأ مقولات تفجير الحروب في البلد الصغير ودوره الكبير ومفادها أن تحرير القدس يمر في الجنوب وتعريض مناطق الحدود الجنوبية لسياسة الأرض المحروقة التي يمارسها الكيان الصهيوني المحتل، وربما مخاطر أفدح.
إن التعاطي مع حياد لبنان غالباً ما هو في اغتراب عن الواقع، ويكشف عن تخلف في البنيات الذهنية لدى مثقفين بدون خبرة وإيديولوجيين ويعوق لبنان الرسالة، وكأنه مطلوب أن يبقى الوطن يعاني عدم الاتعاظ من عبر الماضي، ومن تجاربه السابقة.
وفي هذا السياق، يقدّم الكتاب الصادر حديثاً بعنوان: "حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية: لبنان والنمسا-خبرات مقارنة" (إشراف ميشال فرعون وأنطوان مسرّة، أداء والمؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، الطبعة الأولى، بيروت، 2024) مقاربة أصيلة مختلفة عن المقاربات السطحية التي يستعملها البعض إما جهلاً وإما بسبب ضعف الخبرة، وإما عمداً عن سوء نيّة.
في مقدمة الكتاب، كتب الوزير والنائب السابق ميشال فرعون: "كلما ابتعدنا عن الحياد دخلنا في كارثة". ويرد ذكر مساهمة هنري فرعون في ميثاق الجامعة في عدم اعتبار قرارات الجامعة ملزمة إلا بالنسبة للدول التي توافق عليها. وتحت عنوان: "الحياد ضرورة أكثر من خيار"، يُشدد سفير النمسا في لبنان René Paul Amry على تجذر الحياد النمساوي "بالعمق في حسّ الهوية الوطنية". ويورد مستشار الوزارة الاتحادية لأوروبا والتكامل والشؤون الخارجية Helmut Tichy ثوابت الحياد الدائم في النمسا وخاصةً في عدم عقد تحالفات عسكرية وعدم السماح بقواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.
في الباب الثاني من الكتاب تحت عنوان: "حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية"، يورد الدكتور أنطوان مسرّة في 55 بنداً كل ثوابت الحياد والاستقلال اللبناني بعنوان: "التزام حياد لبنان في إطار جامعة الدول العربية: الجذور التاريخية اللبنانية والعربية في ميثاق 1943 والدستور وميثاق الجامعة العربية واتفاقية الهدنة وسياسة لبنان الخارجية الرسمية وقرارات الأمم المتحدة. عودة لبنان إلى لبنان". وينشر وثيقة تظهر أن الحياد هو من أبرز "الشروط الواضحة المعالم" للرئيس جمال عبد الناصر في 2/4/1958 قبل استئناف المحادثات بين مصر ولبنان وقيامه بزيارة لبنان أو دعوته رئيس الحكومة اللبنانية لزيارة القاهرة، واشتراطه أن تتعهد الحكومة اللبنانية بالتزام الحياد التام حيال الخلافات العربية والدولية. وفي الكتاب: "كوارث لبنان في اللاحياد وكوارث اللاحياد على فلسطين والعرب والعالم" (طوني عطا الله) حيث لائحة الاغتيالات طويلة وسببها رفض قيادات وطنية أن تكون مستتبعة.
يظهر من الكتاب بالوثائق والوقائع أن حياد لبنان هو في صلب ميثاق 1943 والدستور اللبناني وميثاق جامعة الدول العربية وسياسة لبنان الخارجية منذ 1943 والتزامات لبنان الدولية، ووثيقة الوفاق الوطني-الطائف. ونابع من تاريخ لبنان منذ 1860 بشكل خاص، ومن صرخة كل اللبنانيين الذين يريدون التعلّم من التاريخ لا في التاريخ، وهو ثمرة اختبار مأساوي في الاستقطاب عام 1958 واتفاقية القاهرة 1969 التي أرست دولة ضمن الدولة، وسنوات الحروب 1975-1990، واتفاقية قاهرة متجدّدة في 6/2/2006 المعروفة باتفاق استتباع "مار مخايل" الذي عُقد ليس دفاعاً عن قضية بل لأهداف شخصية سلطوية.
هل من إجراءات خاصة للحياد؟ يتحقق حياد لبنان في دولة لبنانية واحدة لا دولتين وجيش واحد لا جيشين وديبلوماسية واحدة، والتزام ما ورد في الدستور: "لبنان عربي الهوية والانتماء"، بالإضافة إلى مساندة عربية وعالمية ثابتة. إنه نهج مغاير لما اعتاده اللبنانيون طوال قرون في حمل قضايا الغير وإلحاق الضرر بقضيتهم. قضية لبنان لا تعلو عليها أيّ قضية مهما كانت.
لا يحتاج لبنان إلى إقرار حياده لأنه مقرر أصلاً، ولا حاجة تالياً إلى حوار حول مبادئ تأسيسية ثابتة ومخترقة منذ نصف قرن. الحياد اللبناني يحتاج فقط إلى ممارسة مستقرة وتثبيت ووقف الاختراقات من قوى داخلية وخارجية، وخاصةً الكفّ عن مخادعة شعبوية وتشويه أرقى المفاهيم في العلاقات الخارجية من جانب سياسيين متلاعبين ومنافقين. يُمثّل الحياد عودة أصيلة إلى الجذور التاريخية التأسيسية اللبنانية والعربية والدولية. أبرز النماذج التاريخية التطبيقية في عهد الرئيس فؤاد شهاب... وإلا فإن القادم يُنبئ خلافاً لما نردّده في أغنية زكي ناصيف: "راجع راجع يتعمّر"! بصراحة تامة يُخشى أن تُستبدل بـ: "راجع راجع يتدمّر...!"