المصدر: النهار
الكاتب: اسكندر خشاشو
الخميس 13 تشرين الثاني 2025 17:38:24
أعلن رئيس حزب الكتائبِ اللّبنانيّة النائب سامي الجميّل تقديم اقتراح تعديل دستوريّ يهدف إلى إدخال مبدأ الحياد في مقدّمة الدستور، لحسم النقاش الدائر منذ سنوات حول هذا الأمر.
فمنذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، شكّل مفهوم الحياد أحد أعمدة الفكرة اللبنانية كما أرادها المؤسسون: دولة صغيرة بموقع حساس، لا تملك ترف الانخراط في الصراعات الكبرى، وتبحث عن دورها كجسر بين الشرق والغرب، لا كجبهة في مواجهتهما. واليوم، بعد قرنٍ من التقلّبات، يعود هذا المفهوم إلى الواجهة بقوة، مع إدراج الجميّل مبدأ حياد لبنان في مقدّمة الدستور، في محاولة لتثبيت خيار وطني يخرج البلاد من دوامة المحاور التي مزّقتها مراراً.
يعود الحديث عن الحياد إلى مرحلة المتصرفية (1861–1914)، حين أُقرّ نظام خاص لجبل لبنان يضعه تحت إشراف دولي ويجنبه الحروب العثمانية. ثم تجددت الفكرة مع ولادة دولة لبنان الكبير عام 1920، وبلغت ذروتها في الميثاق الوطني عام 1943، الذي أرسى توازنا ضمنياً بين العروبة والغرب، فرفض اللبنانيون الحماية الأجنبية كما رفضوا الانضمام إلى أي محور عربي أو دولي.
في أزمة عام 1958، تداخلت السياسة الداخلية مع الصراع بين القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر والمعسكر الغربي. فاندلعت اضطرابات في بيروت وطرابلس، استدعت تدخل القوات الأميركية بعملية "بلو بات" لحماية النظام الحليف للغرب. يومها خسر لبنان حياده الأول، ودخل مباشرة لعبة المحاور.
ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، تحوّل لبنان إلى ساحة تصفية حساباتٍ إقليمية ودولية لتنسف كل مقومات الحياد، وتختصر السيادة ببياناتٍ لا سلطة لها على الأرض.
في تلك المرحلة، كما تشير مصادر تاريخية مثل A History of Modern Lebanon للمؤرخ فواز طرابلسي، لم يعد الصراع لبنانيا بقدر ما أصبح انعكاساً للحروب الباردة العربية ـ الإيرانية ـ الإسرائيلية، إذ انخرطت القوى المحلية في مشاريع إقليمية متناقضة، وأصبح لبنان مرآة لصراعات غيره.
أنهى اتفاق الطائف عام 1989 الحرب الأهلية، لكنه لم ينه تبعية القرار اللبناني. فالوصاية السورية التي فرضت نفسها ضامنا للاتفاق حولت الدولة إلى ملحق سياسي وأمني بدمشق، فبقي، رغم دستوره الجديد، بعيداً من الحياد الحقيقي.
خلال تلك الفترة، اكتمل التحاق البلاد بمحورٍ إقليمي واضح: فحافظ النظام السوري على نفوذه من خلال الأجهزة، بينما نما "حزب الله" قوة مسلّحة مرتبطة بإيران، لتصبح الأراضي اللبنانية امتدادا جغرافيا لصراع طهران وتل أبيب.
حتى بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، استمر الانقسام بين محور "8 آذار" المتحالف مع إيران وسوريا، ومحور "14 آذار" الداعي إلى سيادة كاملة. وهكذا ظل لبنان أسير معادلات الخارج، عاجزاً عن تكريس حياده في الممارسة.
عام 2020، أطلق البطريرك الماروني بشارة الراعي شعار "الحياد الفاعل"، محدداً ثلاثة أبعاد له: ألا يكون لبنان طرفاً في أي نزاع، أن يستعيد احترام المجتمع الدولي لسيادته، وأن يتضامن مع القضايا الإنسانية والعربية من دون أن يتحوّل إلى ساحة حرب.
اليوم، يأتي طرح سامي الجميل امتداداً لهذا المسار، ولكن في إطار دستوري واضح. يريد الجميل نقل الحياد من خانة الطروحات الأخلاقية إلى خانة النصوص الملزمة، عبر إدخاله في مقدمة الدستور التي تحدد هوية الدولة ومبادئها.
غير أن الطريق إلى الحياد ليست سهلة. فالدولة التي لا تملك سيطرة كاملة على حدودها وسلاحها، ولا على قرار الحرب والسلم، لا تستطيع أن تكون حيادية حتى لو نصّ دستورها على ذلك. كما أن الحياد في مفهومه الواقعي يحتاج إلى توافق داخلي شامل، وإلى ضمانات دولية تحميه من ضغوط الجوار.
وفي دليل واضح على صعوبة الأمر، كان أسرع رد من "حزب الله" على طرح الجميل عبر قناة "المنار" التي قالت ما حرفيته "على حد العدوان الذي يفتك بالوطن وأهله وسيادته، كان بعض حضرات النواب غارقين في إيجاد السبل إلى حلم الحياد واقتراحه فقرة في مقدمة الدستور".
يبقى الطرح الكتائبي خطوة رمزية مهمة تعيد النقاش إلى جوهر المشكلة اللبنانية: كيف نحمي الدولة من الانقسام والارتهان؟