المصدر: Kataeb.org
الاثنين 4 آب 2025 10:38:23
كتب المحرر السياسي:
في الرابع من آب 2020، دوّى انفجار بيروت. انفجار ليس كغيره، بل أشبه بزمنين اصطدما في لحظة واحدة، لحظة سقطت فيها العاصمة على ركبتيها، وانهارت أرواح آلاف العائلات تحت الركام، وتصدعت الثقة بما تبقّى من دولة ومؤسسات.
وعدنا التحقيق يومها بالحقيقة خلال خمسة أيام. واليوم، بعد خمس سنوات، لم نقترب حتى من خيط واحد يربط بين الجريمة والمجرمين. كل ما لدينا هو مشهد واحد يتكرر: قاضٍ مكبّل، ومجلس عدلي مشلول، وسلطة ما زالت تمارس سطوتها على القضاء، لا لتكشف الجناة بل لحمايتهم، ومحاولة دفن الحقيقة بأدوات القانون نفسه.
منذ تولي القاضي طارق البيطار ملف التحقيق، بدا واضحاً أن ثمّة من لا يريد للحقيقة أن تظهر. ومع كل استدعاء يصدره القاضي بحق مسؤول أو نائب أو أمني، كانت تنهال عليه دعاوى الرد والمخاصمة، وتُفرمل يده من جديد. لم تعد الحصانات درع حماية للمسؤولين بل تحوّلت إلى سلاح هجومي بيدهم ضد القضاء والشعب على حد سواء.
وها نحن اليوم أمام محاولة جديدة لطمس الملف نهائياً، عبر الدفع بإحالته إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، في خطوة تُعدّ في ظاهرها قانونية، لكنها عملياً بمثابة مقبرة للقضية، بالنظر إلى آلية عمل هذا المجلس التي تُخضع ملاحقة أي مسؤول سياسي لإرادة ثلثي مجلس النواب، أي لنفس المنظومة التي يتهمها اللبنانيون بإخفاء الحقيقة.
في هذا المشهد القاتم، لا أحد يدفع الثمن سوى الناس. هم من ماتوا على الطرقات وتحت بيوتهم، هم من نزفوا في المستشفيات المتهالكة، وهم من خسروا أحباءهم، من تشردوا، من تهدمت منازلهم دون أن يحصلوا على تعويضات، ومن يعيشون حتى اليوم على ذكريات مرّة وجراح لا تندمل.
الجرحى ما زالوا يتعالجون على نفقتهم، أهالي الضحايا يطرقون أبواب العدالة من دون أن تُفتح، والسلطة ماضية في نكرانها وتهرّبها، كأن شيئاً لم يحدث. كأن بيروت لم تحترق، ولم تبكِ، ولم تُذل.
الانفجار لم يكن فقط كارثة مادية؛ كان لحظة سقوط أخلاقي شامل للدولة، لحظة انكشاف مدوٍّ لعقود من الفساد والإهمال والاستهتار، وقد جاء التواطؤ ضد التحقيق ليضيف طبقة جديدة من الظلم: محو الذاكرة.
لكن ذاكرة اللبنانيين، وذاكرة بيروت بالتحديد، ليست قصيرة. صحيح أن البلاد تعيش يوميات متخمة بالأزمات، لكن الرابع من آب يبقى يوماً محفوراً في الوعي الجماعي، لن تمحوه البيانات ولا التسويات ولا الصفقات القضائية.
قد يكون السؤال الأخطر اليوم: من يحاكم من؟ هل القضاء سيبقى خاضعاً لسطوة السياسة، أم أن لحظة ما ستكسر هذا الجدار؟ وهل سيبقى هذا الملف في دائرة المماطلة إلى أن يُقبر نهائياً، أم أن صوت الناس، وصوت الضحايا، سيظل أقوى من آلة التعتيم؟
في ذكرى الانفجار، لا نحتاج إلى خطابات ولا إلى منصات ولا إلى صلوات رسمية باردة. نحتاج فقط إلى الحقيقة. وإلى عدالة لا ترتدي عباءة السياسة.