رحلة الحريري من التكليف والاعتذار

266 يوماً من التكليف، انتهت أمس باعتذار الرئيس سعد الحريري ، ليدخل لبنان في نفق مظلم جديد يعمق أزماته المتلاحقة التي وصلت إلى حدود تحلل الدولة.
بعد انفجار مرفأ بيروت، راهن اللبنانيون على أن تكون هذه الفاجعة باباً للبدء بحل أزماتهم التي يتخبطون فيها منذ سنة 2019، وخصوصاً بعد التضامن الدولي والعطف الذين ناله من غالبية الدول التي أبدت استعدادها للمساعدة.
وقام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارتين إلى لبنان وعقد أكثر من مؤتمر لإغاثة الشعب اللبناني، فيما أبدت المؤسسات الدولية استعدادها للتدخل العاجل شرط تشكيل حكومة تبدأ بإصلاحات سريعة تستأصل الفساد المستشري وتعلن خطة نهوض واضحة.
22 تشرين الأول 2020 بدأت رحلة الحريري لتشكيل حكومة جديدة لم يكتب لها النجاح أيضاً.

قبل تكليف الحريري أبدى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امتعاضه وأخرّ الاستشارات النيابة لفترة أسبوع، وقبل يوم من تحديدها توجّه ببيان نصائح للنواب بعدم تسمية الحريري. لكنّه عاد وكلّفه استناداً لنتائج "الاستشارات النيابية الملزمة".
أعلن الحريري بعد قبوله التكليف أنه سيسعى لتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين تعمل على "تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الواردة في مبادرة ماكرون.
تمسك الحريري بمهمته وأصرّ على حكومة من 18 وزيراً من الاختصاصيين رغم جميع محاولات الرئيس عون وتياره فرض معاييرهم بدءًا من شعار "التأليف قبل التكليف". وحصرية تسمية الوزراء المسيحيين، بالإضافة إلى "الثلث المعطّل" داخل مجلس الوزراء.
قسّم الحريري في تشكيلته الـ18 وزيراً الى ثلاث ستات من دون حصول أحد على الثلث المعطل. وبعد جولات من المشاورات تقدم الحريري لرئيس الجمهورية بتشكيلة كاملة لم تحظَ برضى الرئيس.

جمدت المشاورات لمدة طويلة وباءت جميع المساعي الفرنسية بالفشل، كما عجزت الجهود التي قادها البطريرك بشارة الراعي عن دفع الرئيسين عون والحريري لاعتماد الحوار لفكّ أسر التشكيلة الحكومية.
ورغم نجاح الراعي بكسر المقاطعة ما دفع الحريري الى القيام بزيارة جديدة غلى بعبدا، لكن عون أرسل لائحة بتوزيع الوزارات على الطوائف والقوى السياسية، مع عنصر في قوى الأمن الداخلي مرفقة بعبارة من "المستحسن تعبئة الجدول" والتي اعتبرها الحريري اهانة و"محاولة مكشوفة لفرض عون تشكيلة حكومية تكرّس حصول التيار على الثلث المعطّل، وعلى الوزارات المهمّة". انتهت بتلاوة الحريري من القصر الجمهوري بياناً يشرح فيه فشل الاجتماع وأسبابه، وأدى الى قطيعة امتدت حوالي شهرين ونصف الشهر.
في جميع المراحل، لم تتوقف الجهود الديبلوماسية وتوسَّعت لتشمل زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري، والأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي إلى بيروت في الأسبوع الأول من نيسان الفائت، ولكن دون جدوى.

مبادرة بري
تقدّم رئيس مجلس النواب نبيه برّي بمبادرة أيّدتها القاهرة، تقوم على اقتراح تشكيل حكومة من 24 وزيراً، تقسم على ثلاث "تمانات"، لكن ما لبثت ان تعرقلت من جديد مع شروط جديدة أطلقها عون، حيث تمسك بتسمية الوزراء المسيحيين ورافضاً أن يسمي الحريري أي اسم من المسيحيين، إضافة إلى التمسك بالثلث المعطل ولو بطريقة مواربة قبل أن يهاجم باسيل في مؤتمر صحافي بري ويعتبره ليس حكماً ويطلب من "حزب الله" التدخل للحفاظ على الحقوق، ما اشعل سجالاً وخلافاً بين بري وعون وباسيل، أوقف على إثره مبادرته.
ورغم ذلك، لم تتوقف الجهود الدولية لمحاولة إعادة التواصل، فقد عقدت اجتماعات بين وزراء الخارجية والفرنسية والسعودية على هامش قمة المناخ، وثم استتبعت بتحرك للسفيرتين الاميركية والفرنسية اللتين زارتا الرياض لاستكمال المناقشة، كما تواصلت الجهود المصرية إضافة إلى زيارات مستمرة للموفدين الفرنسيين، لكنها جميعها لم تثمر أي تقدم في ظل تمسك كل فريق بمطالبه.
وأمس، زار الحريري عون من جديد ليخرج بعدها مؤكداً عدم إمكانية الاتفاق مع عون الذي طلب منه تغييرات على تشكيلة الـ24 وزيراً التي قدمها أمس واعتبرها جوهرية لا يستطيع السير بها، وبالتالي يكون طوى صفحة التكليف وأصبح لبنان في وجه العاصفة من جديد.
في الدستور، وبعد اعتذار الحريري، على رئيس الجمهورية أن يدعو إلى استشارات نيابية، وهي ملزمة ينتج عنها تسمية شخصية تكون مكلفة لتشكيل الحكومة.
لكن في المقابل لم يحدد الدستور اللبناني مهلة لرئيس الجمهورية لهذه الدعوة، وهذا ما استعمله عون في العديد من الأوقات، ومن المتوقع أيضاً في هذه المرحلة أن تتأخر هذه الاستشارات، رغم وعد الرئاسة في بيانها الأخير بأنها ستجريها قريباً.
وفي العادة، لا تنطلق استشارات مماثلة في لبنان إذا لم يحصل اتفاق على اسم، وخصوصاً بين الكتل الكبيرة في مجلس النواب، وهذا ما يبدو متعذراً حالياً، وما سيؤخر الاستشارات إلى أمد غير معروف.