المصدر: الشرق الأوسط
الاثنين 19 آب 2024 06:50:33
تنشر «الشرق الأوسط» حلقات من كتاب جديد للسياسي اللبناني باسم السبع يروي فيه فصولاً من العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وأركان الحكم في سوريا. يحمل الكتاب عنوان «لبنان في ظلال جهنم - من اتفاق الطائف إلى اغتيال الحريري» (من إصدارات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر).
عمل السبع لسنوات مستشاراً لرفيق الحريري حتى اغتياله عام 2005. فاز بعضوية مجلس النواب اللبناني من عام 1992 حتى عام 2009. كما شغل منصب وزير للإعلام في حكومة رفيق الحريري بين العامين 1996 و1998. وهو ينتمي إلى تيار المستقبل ومن أقطاب تيار 14 آذار.
عاشت علاقة رفيق الحريري مع السلطة السورية قرابة ربع قرن ونيف، بدأت في مستهل الثمانينات كموفد للملك السعودي فهد بن عبد العزيز، يواكب المَهمّات الدبلوماسية للأمير بندر بن سلطان، خصوصاً ما يتصل منها بالجهود العربية لوقف الحرب الأهلية اللبنانية.
تقاطعت في التأسيس لتلك العلاقة، لنجاحاتها وإخفاقاتها، أدوار ومصالح وحسابات سياسية وشخصية لمسؤولين في النظام السوري، حصلوا من الرئيس حافظ الأسد على إذن التدخل في المسألة اللبنانية، والتعامل مع مكوّناتها الطائفية والحزبية.
تولّى جانب العلاقة المباشرة مع الحريري كلٌّ من نائب الرئيس عبد الحليم خدّام ورئيس أركان الجيش العماد حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان واللواء رستم غزالة. وانضم لهذه القائمة بشّار الأسد في السنوات الأخيرة لوالده.
وتولّى جانب الاهتمام بالمعارضة اللبنانية ورموز المواجهة مع الحريري، باسل الأسد قبل مقتله، ومن بعده بشّار وماهر الأسد واللواء محمد ناصيف (أبو وائل)، واللواء آصف شوكت، واللواء علي المملوك. وأضيفت إليهم لدواعٍ رسمية وطارئة شخصيات تولّت رئاسة الحكومة السورية، ووزراء من وزن وزير الدفاع مصطفى طلاس، ووزير الخارجية وليد المعلّم، وسلفه الوزير فاروق الشرع، وكبار الضباط ممن تولوا قيادة القوّات السورية في لبنان.
المتعارف عليه، مما علمناه وقرأناه وتابعنا وقائعه، أن العلاقة بين الحريري الأب والأسد الأب، نشأت وتطوّرت واختُبرت تحت مظلّة العلاقات السعودية - السورية، وحكمتها ظروف عزّزت الثقة والاحترام المتبادل بين الرجلين، إلى حدود سُمح فيها لقياديّ في حزب البعث من آل الأحمد بكتابة مقال في جريدة «السفير»، يطالب فيه برئيس للحكومة السورية من طراز رفيق الحريري، في الوقت الذي كان اسمه يسطّر في وسائل الإعلام وزيراً لخارجية البلدين، وأهم صنّاع اتفاق الطائف والوفاق الوطني في لبنان.
لم تنسحب علاقة الحريري مع حافظ الأسد على علاقته بأبنائه، أي بكلٍّ من باسل وبشّار وماهر، بل هي خلاف ذلك، شابها كثير من الرسائل المفخخة وانعدام الثقة، وتعرّضت لنكسات سياسية خلّفت أضراراً جسيمة في العلاقات اللبنانية - السورية، وانتهت إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، وسقوط لبنان وسوريا معاً في مستنقع الأحقاد المتبادلة.
قبل بشّار، عقد حافظ الأسد لواء الوراثة السياسية لابنه البكر باسل، الذي قضى في حادث سير على طريق مطار دمشق. باسل شخصية احتلّت منذ الثمانينات مركزاً متقدّماً من مراكز القوى في النظام السوري، بصفته الوريث الذي لا ينازعه أحد على هذا الموقع، بعد إقصاء عمّه رفعت ونفيه (...) إلى فرنسا وإسبانيا، وبصفته أحد أركان القرار في المربّع الذهبي للنظام، أي العائلة والطائفة والجيش والحزب. فهو الابن البكر لرئيس البلاد وزعيم الطائفة العَلَوية والقائد الأعلى للقوات المسلّحة والأمين العام لحزب البعث الحاكم، وكلها صفات تتشكل منها سمات الدخول إلى جنّة المربع.
شاركت مع الحريري في مأتم باسل الذي أقيم في بلدة القرداحة شمال سوريا، وشهدت على الحشد الذي تجمّع في باحة المسجد، يتقدّمه الرئيس حافظ الأسد والرئيس حسني مبارك وخدّام وكبار المسؤولين. ولاحظت الرئيس الحريري يبكي متأثّراً، خلافاً لبقية كبار المشاركين. سألته بعد المأتم عن سبب بكائه وهو لم يكن على معرفة بباسل وليست بينهما علاقات ودّ تستوجب البكاء. أجاب: «كلّ ما في الأمر أنني تذكّرت ولدي حسام (ابنه الذي قضى في حادث سير أواخر الثمانينات في الولايات المتحدة). ليس هناك أصعب من هذه اللحظات على الأب. كان اللَّه في عون الرئيس الأسد».
باسل الأسد... رفيق الحريري بكى في جنازته
(...) كان باسل بطل سوريا الدائم في الفروسية والأوّل في دورته للإنزال المظلّي، والضابط الذي بهر أساتذته وحصل على دكتوراه في العلوم العسكرية بدرجة ممتاز من الأكاديمية العسكرية في الاتحاد السوفياتي عام 1991، قبل شهر واحد من بدء تفكّك الدولة السوفياتية. أما بشّار فقد دانت له في عمرٍ مبكر، لم يتجاوز الثالثة والعشرين، شهادة الطبّ من كلية الطب في الجامعة السورية، قبل أن يجري الحديث عن التحاقه للتخصّص في طبّ العيون في بريطانيا، ويُستدعى قبل نهاية تخصّصه إلى دمشق عام 1994 لنيل رتبة وريث حافظ الأسد بعد مقتل شقيقه باسل، ويجرى تعديل دستوري يتيح لابن الثالثة والثلاثين تولّي رئاسة الجمهورية.
سار بشّار على خطى الوالد. قفز من الطبّ إلى الجيش، ومنه إلى قيادة الحزب والرئاسة. الابن الثالث ماهر، درس إدارة الأعمال ومارسها على أعلى المستويات. لم يساعده طبعه الحاد في وراثة موقع شقيقه باسل، لكنه احتلّ في المعادلة العَلَوية موقع عمّه رفعت، واحتل الموقع الثاني في النظام، منذ توليه قيادة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، الدرع العسكري الذي يحيط دمشق ويقوم مقام سرايا الدفاع أيام رفعت، المكلّف حماية الرئيس من السقوط.
لعب الأبناء الثلاثة أدواراً متفاوتة في التأثير على الدور السياسي لرفيق الحريري. يضاف إليهم من البيت العَلَوي العماد علي دوبا واللواء كنعان بحكم موقعه كرئيس لجهاز الأمن والاستطلاع للقوّات السورية في لبنان، واللواء محمد ناصيف المعروف بوفائه لبيت الأسد، واللواء آصف شوكت، زوج ابنة الرئيس، الذي قوي نفوذه بعد مصرع باسل وتولّى مسؤوليات أمنية رفيعة مع بشّار.
حاول رفيق الحريري التقرّب من باسل الأسد بداية التسعينات، لدوره الأساسي في الملف اللبناني وشبكة العلاقات التي أقامها مع كثير من الشخصيات اللبنانية المصنفة في خانة المعارضة، لكن الرئيس حافظ لم يسعفه في تحقيق هذه الرغبة، ووجد الوقت الملائم لتحقيقها أواخر التسعينات، من خلال فتح الباب للقاء مع بشّار.
اتّسمت العلاقة مع بشّار في تلك المرحلة، بمنسوب عالٍ من النفور بعد اعتماد الرئيس إميل لحّود رجل سوريا الأوّل في لبنان، وتسهيل عمل فريقه القضائي والأمني في تركيب الملفّات الكيدية وملاحقة رجاله في الإدارة وشنّ حملات التشهير بسياساته بعد إبعاده عن رئاسة الحكومة. اعتبر الحريري أن الموقف يتطلّب تحرّكاً لفكّ الحصار المفروض عليه من لحّود وجماعته بالتعاون مع مسؤول المخابرات السورية في لبنان اللواء غازي كنعان ومعاونه رستم غزالة، واختار الذهاب إلى منبع المشكلة، للبحث عن الوسائل الممكنة لتصحيح العلاقة.
تحرّك نحو الشام في زيارة غير معلنة للقاء الرئيس السوري حافظ الأسد في عام 1999. العام الأخير في ولاية استمرت زهاء ثلاثين سنة انتهت بوفاته في يونيو (حزيران) من عام 2000. قد يكون اللقاء الأخير بينهما، وفيه أدرك الحريري أن الأسد الأب أنهى تعبيد الطريق أمام ابنه بشّار إلى قصر المهاجرين، وبات يعدّ الأيام التي يسلم فيها الروح ليسلّم ابنه زمام القيادة.
نصح الأسد الحريري بالانفتاح على بشّار والتحدّث إليه مباشرة في الملف اللبناني والعلاقات الثنائية. «بشّار على علاقة طيبة مع لحّود وقادر على معالجة الأمور». وافق الحريري من دون تردّد وتعهّد الأسد الكبير ترتيب لقاء مع الأسد الصغير. فهم الزعيم اللبناني أن قدرة صديقه نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام على التأثير تراجعت، وأن تجديد تأشيرة الدخول إلى قصر المهاجرين يستدعي تقديم الطلب لدى بشّار.
استدعاني الحريري إلى قريطم (مقره في بيروت) صبيحة يوم في أواخر سبتمبر (أيلول) 1999، وأبلغني وجوب الاستعداد للتوجّه برفقته إلى دمشق في زيارة «ما بدّي حدا يعرف فيها. أبو طارق (المرافق الأمني يحيى العرب) ينتظر اتصالاً نتحرّك بعده مباشرة». حضر أبو طارق. همس في أذن الرئيس ثم قال: «تفضّلوا يا شباب». أبو طارق ووسام الحسن (مسؤول أمني لبناني رفيع) وأنا. استقل الحريري سيارته المرسيدس المصفّحة. قادها وأنا إلى جانبه والحسن في المقعد الخلفي. أقلع الموكب من قريطم تتقدّمه سيارة مجهّزة بأحدث تقنيات الرصد الأمني وسيارتان للتمويه تحملان الأرقام ذاتها، وخلفنا سيارة إسعاف ورتل من السيارات رباعية الدفع مخصّصة لنقل المرافقين بكامل عتادهم المسلّح. توجّه بعد أقلّ من دقيقة إلى الحسن قائلًا: «باسم لا يعلم يا وسام مع من سنجتمع في الشام». سألت: «هل سترى الرئيس؟». أجاب: «أهمّ... سأجتمع مع بشّار. هكذا يريد الختيار وهناك حاجة لفتح صفحة جديدة. الأب يعاني صحيّاً والشاب سيصل إلى الحكم، ومطلوب مني مساعدته... إنها المرّة الأولى التي أقصد فيها الشام ولا ألتقي أبو جمال (خدّام). بكل الأحوال لا أريده أن يعلم... أنا أبلغه لاحقاً».
واصل الموكب تحرّكه من دون توقف. لدى وصوله إلى مفرق عنجر، حيث مقرّ القيادة السورية ومكتب اللواء غازي كنعان، واصل الحريري القيادة نحو الحدود اللبنانية - السورية. قال: «ما بدنا نشوف حدا. بعد جديدة يابوس هناك من ينتظرنا للمرافقة». في الجديدة رافقتنا سيارة مرسيدس 190 فيها ثلاثة أشخاص. سرنا خلفها إلى مداخل دمشق، وسلّمت الموكب إلى سيارة ثانية، بيجو بنيّة اللون، طلب سائقها من أبي طارق مواكبته مع سيارة الرئيس الحريري فقط. ركنت بقية السيارات إلى جانب الطريق، وقادتنا البيجو فوق طريقٍ ترابي مسافة كيلومترين أدّى بنا إلى جبل قاسيون.
فوق تلة معزولة عن بقية أحياء الجبل، أنشأ باسل الأسد ميني فيلا اعتمدها مكتباً لاجتماعاته الخاصة. ورث بشّار خلافة والده من شقيقه، وفي عداد الإرث كانت الفيلا المبنية من حجر صخري تحيطها أرض جرداء إلاّ من بعض الشجر المزروع حديثاً. هي صغيرة بما يكفي لأن تكون محل إقامة شبابياً يطلّ على دمشق من فوق.
استقبل بشّار الحريري عند مدخل مكتبه، واستُبقينا، وسام الحسن وأبو طارق العرب وأنا، في الصالون المجاور. حاولت استراق السمع لما يدور من أحاديث. لم أوفّق، إلّا بصدى قهقهة اختلطت بكلام لم يصل واضحاً إلينا، على الرغم من الإشارة التي أعطيتها لرفيقيّ بضرورة التزام الهدوء إلى حدود الصمت... فعسى أن نحصل على عبارة، تنعش أجواء الزيارة وتخفّف التوتّر الذي أطبق علينا كما لو أننا في زيارة معتقل.
استمرّ الاجتماع زهاء ساعة ونصف الساعة. ودّع بشّار ضيفه بمثل ما استقبله، وأشار إلينا بتحية عن بعد أمتار قليلة، من دون مصافحة أو كلام، سوى الوداع التقليدي وعبارة وصل من خلالها إلى أسماعنا صوت بشّار يقول: «إلى اللقاء قريباً إن شاء اللَّه دولة الرئيس».
استقللت السيارة إلى جانب الرئيس في طريق العودة. لدى الوصول إلى مكان توقّف الموكب، طلب من وسام الالتحاق بسيارة أبو طارق. لم يبدِ الحريري أيّ ردّ فعل. بقي صامتاً، واجتنبتُ توجيه أي سؤال إليه حتى وصلنا إلى جديدة يابوس. سألته: «خير إن شاء اللَّه. ساكت على غير عادة. كيف كان الاجتماع؟». نظر إليّ مبتسماً: «خير... خير. لاحقين نحكي». كبس زر المسجّل في السيارة، فخرج صوت المطربة وردة الجزائرية وراح يدندن معها «قال إيه بيسألوني... عنّك يا نور عيوني». قطعنا الحدود وصرنا في الجانب اللبناني من المصنع. ركن السيارة جانباً. توقّف الموكب. قال: «قوم سوق عنّي» ... وهكذا كان. تبادلنا المقاعد، وفور الانطلاق بادر إلى القول: «الاجتماع كان ضرورياً وأكيد منيح (جيّد)... لكن بدّك الصراحة؟ أنا بعد هالجلسة منّي خايف (خائف) على لبنان. فينا نقلّع شوكنا بأيدينا. تعوّدنا نوقع (نسقط) ونرجع نوقف. أنا صرت خايف على سوريا».
«ليه من غير شر؟»، سألته.
أجاب: «بعد حافظ الأسد ح يحكم سوريا ولد... اللَّه يكون بعون سوريا». حرّك مقعده إلى الخلف... ونام.
الانطباع الذي خرج به الحريري من الاجتماع، لم يمنعه من متابعة التصدّي للهجمة التي يتعرّض لها. فاتحني في اليوم التالي، بأن همّ بشّار ينحصر حاليّاً في «ترتيب البيت الداخلي للحزب والنظام والعائلة، لمواجهة أي طارئ يتعلق بصحة والده. يبدو أنه يرى في صداقتي مفتاحاً لعلاقات خارجية يحتاج إليها في المرحلة المقبلة... سألني عن علاقتي بالرئيس شيراك وولي العهد السعودي الأمير عبد اللَّه بن عبد العزيز والإدارة الأميركية، طالباً التعاون مع لحّود ومواكبة التغيير الذي ستشهده سوريا. الشاب يترقّب رحيل والده من دون أن يفصح عن ذلك ويردّد أن صحّة الوالد تقلقه، والسكري مرض غدّار يفرّخ أمراضاً في القلب والشرايين».
بدا الحريري مطمئنّاً لانشغال بشّار بالشأن السوري الداخلي، ولم يفته مواكبة هذا الانشغال بالتواصل مع خدّام والعماد حكمت الشهابي واللواء كنعان، لتطويق أيّ مضاعفات تنشأ عن الانفتاح على بشّار. ذهب أبعد من ذلك أيضاً، عندما سألني عن جدوى التواصل مع اللواء محمد ناصيف (أبو وائل)، رأس حربة باسل الأسد ومن بعده بشّار، في الملف اللبناني، وأحد أركان النظام المقرّبين من العائلة والمتابعين لملف العلاقات الشيعية والإيرانية، والمعروف بصلته الوثيقة بالعلّامة السيّد محمد حسين فضل اللَّه. شجعته على ذلك وأشرت إليه بوجود شخصية مقرّبة منه على صلة باللواء ناصيف هي المهندس الفضل شلق (تولّى وزارة الاتصالات في مرحلة لاحقة)، ملاحظاً أن ناصيف لا يرتاح لشخصيات لبنانية بينها هو والرئيس نبيه بري وميشال المر، وتربطه صداقة خاصة بالرئيس حسين الحسيني، ويراه الأجدر لتولي رئاسة مجلس النوّاب، كما يعبّر عن مواقف شديدة السلبية تجاه سياسيين لبنانيين على صداقة مع خدّام، ليس بينهم وليد جنبلاط.
بعد أيام قليلة من اجتماع قاسيون، أبلغني الحريري أن خدّام ينتظرني في منزله في مدينة بانياس الساحلية و«يمكن أن تضعه في الأجواء المستجدّة وتشرح خلفيات اللقاء مع بشّار، والمهم أن تأتي لي بردّ فعله الذي لا يقوله على الهاتف». قصدت بانياس أسأل عن منزل عبد الحليم خدّام، فأفادني صاحب دكان بعنوان دارة شقيقه، وفي محيطها فيلا على الشاطئ خاصة بخدّام. اختليت مع نائب الرئيس السوري مدّة ساعة، انتهت برسالة إلى الحريري تقول: «يبدو أن الشاب مستعجل على دفن والده. بكل الأحوال أبو بهاء عم يشتغل صحّ، وعليه أن يكمل بهذا الخط. الهجمة عليه كبيرة جدّاً في بيروت وفي دمشق، ويستحسن تخفيف الخصوم والضغط ليتمكّن من حشر لحّود. لكنني بصراحة غير متفائل، وهناك من يحفر له في سوريا وفي لبنان. بكل الأحوال خبرو (أخبره) أنا معه لآخر نَفَس».
في هذا الوقت تحرّك الحريري في اتجاه اللواء محمد ناصيف الذي يقيم في نطاق سكني حديث في منطقة الصبورة لجهة المدخل الغربي لمدينة دمشق. استقبلنا ناصيف بحفاوة مميزة عند مدخل الفيلا، التي قال إن المرحوم باسل بناها له، وهي متواضعة نسبيّاً وليس فيها ما يشير إلى ثراء غير طبيعي، ومن ضمنها حديقة زُرعت بأشجار مثمرة وغير مثمرة.
كنت على معرفة بأبي وائل، والتقيته غير مرّة في مكتبه رفقة الزميل وليد الحسيني صاحب مجلة «الكفاح العربي»، وكان من القيادات التي تحتفظ بخط عسكري مباشر مع بشّار، يتلقّى عبره التوجيهات ويسأل عن أمور تتعلّق تحديداً بالوضع اللبناني وخريطة التحالفات الانتخابية، على ما شهدت في إحدى المكالمات.
عبّر اللواء ناصيف عن حفاوته بضيفه بالقول «أنا أنتظر هذا اللقاء منذ سنوات. أنت يا دولة الرئيس، عزيز على سوريا وعليّ شخصيّاً. فرحتي كبيرة بتشريفك البيت. هذا بيتك كما هي بيوت كلّ السوريين. الحق على الأخ أبو يعرب (يقصد اللواء غازي كنعان) الذي أراد احتكار صداقتك... نحن أيضاً أصدقاء وأخوة لك. اليوم خاص لا شريك لي بدولة الرئيس. نتناول الغداء ونرتاح بالجنينة ونأخذ راحتنا من دون تكليف».
الأحاديث الشخصية والمأدبة التي فُرشت بكل ما طاب من مناسف ومأكولات شامية، والإلحاح المتواصل من المضيف على تناول معظم الأصناف، تقدّمت على أحاديث السياسة التي بدت تفصيلية أمام مظاهر الترحيب. أهم صنف على المأدبة كان كسر الجليد مع رجل صُنّف لسنوات في خانة الخصوم، وفبركة أخصام للحريري في لبنان. تركنا الصبورة مشيّعين بمثل ما استُقبلنا بعد وجبة وداعية من الرمان ساعدت على هضم سائر الوجبات، وعطّلت ألغام أبي وائل ولو إلى حين.
أدرك الأسد الأب أن ولده لن يقلع بأمان في غياب احتضان عربي ودولي لوجوده على رأس الحكم. ولعلّه رأى من خلال حاسته السياسية المتوقدة، أن الحريري يمكن أن يكون لاعباً أساسيّاً في الاحتضان، وأن جنازته لا بدّ من أن تكون مناسبة لانطلاق سفينة بشّار في الحكم، وعلى متنها الرئيس الفرنسي جاك شيراك وولي العهد السعودي الأمير عبد اللَّه والرئيس المصري حسني مبارك والإدارة الأميركية ممثلة بوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، ومن هو أفضل من رفيق الحريري لتحقيق هذا الهدف؟
زحف لبنان إلى جنازة حافظ الأسد في ما يشبه تقاطر الشخصيات العربية والدولية والقيادات اللبنانية وجماهيرها، إلى احتفال بتنصيب بشّار الأسد رئيساً. انتظر بشّار هذه اللحظة أشهراً طويلةً، واجتماعه مع الحريري في جبل قاسيون يأتي في إطار تلك اللحظة.