رهانات الوهم وحقائق التحوّل

يستمرّ فريق الممانعة في لبنان في التعاطي مع التطورات الإقليمية والدولية بعقلية تنتمي إلى ما قبل "خطيئة حرب الإسناد" وما تلاها من ارتدادات عميقة، أبرزها سقوط النظام السوري كدولة فاعلة في الإقليم، وانكشاف دوره وتحوّل سوريا إلى ساحة صراع تتقاطع فيها القوى الكبرى والإقليمية. هذا الفريق، لا يزال يتصرّف كما لو أن موازين القوى ثابتة، وأن هوامش المناورة التي كانت متاحة قبل سنوات لا تزال قائمة، متجاهلًا أن المنطقة دخلت منذ مدة في مرحلة جديدة من الحسابات الحاسمة والوقائع الضاغطة التي لم تعد تسمح باستراتيجيات الانتظار أو الهروب إلى الأمام.

فقد تبدّلت الأولويات الإقليمية، وصار "الخنق التدريجي" للواقع العراقي هاجسًا حقيقيًا لدى دوائر الممانعة، خصوصًا أن العراق شكّل لسنوات المتنفس الأهم لـ "حزب الله" وإيران. ومع اشتداد الضغوط على الساحة العراقية، يجد "الحزب" نفسه اليوم "مجروحًا" سياسيًا وأمنيًا وتنظيميًا، لكنه يواصل المعاندة والتمسّك بالقرار الإيراني، في وقت يبرز داخل الطائفة الشيعية تيار وازن يدفع بوضوح نحو "لبننة الحلول" وعدم انتظار التعليمات الخارجية، وتحديدًا في ملف السلاح الذي بات إنهاؤه جزءًا من تسوية إقليمية ودولية لا مكان فيها للنهج القديم.

أخطر ما تواجهه الممانعة اليوم هو رهانها العقيم على عامل الوقت وانتظار تبدّل المشهد السياسي الخارجي. بعض منظريها يروّجون لتوقعات غير واقعية حول أن الانتخابات النصفية الأميركية المقبلة ستحدّ من نفوذ الرئيس دونالد ترامب بحيث ينتقل التركيز إلى الداخل الأميركي على حساب الخارج، وأن انتخابات الكنيست الإسرائيلي أواخر العام المقبل ستفتح بابًا لتغيّر المسار السياسي والعسكري في تل أبيب. هذه الرهانات لا تستند إلى أي قراءة موضوعية؛ فترامب يزداد تمكّنًا داخل المؤسسات الأميركية، والمجتمع الإسرائيلي يتجه إلى مزيد من التطرّف، مع صعود قوى أكثر تشددًا من تلك التي يمثلها بنيامين نتنياهو. وبالتالي، فإن الرهان على تغييرات انتخابية كمدخل لتحسين شروط التفاوض أو تعديل موازين القوى هو أقرب إلى السراب والمغامرة غير المحسوبة.

إلى جانب ذلك، يراهن فريق الممانعة على أن السفير الأميركي الجديد في بيروت ميشال عيسى سيحمل مقاربة مختلفة أو "مخففة"، مستندًا إلى صمت السفير منذ وصوله. لكن هذا الصمت ليس سوى جزء من منهجية عمل واضحة ومحددة سلفًا عنوانها تنفيذ مسار حازم يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى، الإسراع في عملية نزع السلاح على كامل الأراضي اللبنانية قبل نهاية العام الحالي، باعتبار أن واشنطن ترى أن هذا الملف لم يعد يحتمل تدويرًا للزوايا ولا "مغيطات حوار". والثانية، الدفع نحو فتح قناة اتصال مباشر بين لبنان وإسرائيل برعاية أميركية لحل كل النقاط الخلافية من الأمن إلى الحدود، بما يشكّل ممرًا إلزاميًا لبدء مرحلة إعادة الإعمار.

وفي هذا السياق، جاء ما حصل بملف تأجيل زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن ليؤكد أن الرسائل الأميركية تُوجّه اليوم بلغة سياسية عبر القنوات العسكرية. فالرسالة لم تكن موجّهة إلى الجيش أو قائده، بل إلى المستوى السياسي اللبناني، وقد قرأتها المؤسسات الرسمية بدقة، خصوصًا أنها تزامنت مع تسلّم السفير عيسى مهامه، ما جعل دلالاتها أوضح وأشدّ وقعًا.

كما أن الاعتقاد بوجود أزمة بين بيروت وواشنطن هو قراءة مغلوطة. فالدعم الأميركي للمؤسسة العسكرية لم يتأثر، ولم تتراجع واشنطن يومًا عن اعتبار الجيش استثمارها الأكثر نجاحًا في لبنان منذ نهاية الحرب، كونه المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تحظى بثقة غالبية الشعب اللبناني. وتشير الوقائع المرتقبة مطلع العام المقبل إلى استمرار برامج الدعم العسكري للجيش والقوى الأمنية، ما يعني أن أزمة زيارة العماد هيكل سيتم تجاوزها قريبًا، خصوصًا أن الرسالة التي أرادت واشنطن إيصالها قد وصلت، من دون أن تكون موجّهة ضد الجيش أو قائده.

بناء على ما سبق؛ البلاد أمام مرحلة دقيقة لا تحتمل المناورات القديمة ولا الرهانات البعيدة عن الواقع. التحولات الإقليمية، الرسائل الدولية، الضغوط المتصاعدة، وتغيّر المزاج داخل البيئة الشيعية نفسها (..) كلها مؤشرات على أن لبنان مقبل على تسويات لا مكان فيها لسلوكيات ما قبل "حرب الإسناد"، ولا لمعادلات فقدت صلاحيتها السياسية والأمنية.