المصدر: وكالة الأنباء المركزية
الثلاثاء 4 تشرين الأول 2022 17:13:34
كأن حكايات الموت باتت أقرب إلى رواية ألف ليلة وليلة في يوميات أبناء طرابلس الذين وبشهاداتهم يموتون ألف ميتة يوميا "فهل نسأل بعد عن المخاطر التي ستنتج عن رحلات الهجرة غير الشرعية؟ وهل ستردعنا مشاهد الجثث المتحللة في قعر البحر في حين أننا صرنا أشبه بجثث متحركة فوق اليابسة؟"
قد تنفتح فصول حكايات زوارق الموت ذات يوم وتتكشف الحقائق عن الدوافع التي تبدو إقتصادية وإجتماعية في ظاهرها. لكن باطنها يحمل أكثر من علامة استفهام حول كيفية خروج هذه الزوارق من نقاط باتت مكشوفة براً وبحراً أمام الأجهزة الأمنية وهي تتمركز في الميناء والقلمون في طرابلس والعبدة في عكار. والأهم لماذا لا تسّير القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني دوريات لها على مدى 24 ساعة على 24 على طول الشاطئ البحري شمالا وتحديدا حيث تتكثف عمليات انطلاق الزوارق التي تقل مهاجرين غير شرعيين؟ وهل تحولت مراكب الهجرة إلى ملجأ لعشرات المطلوبين والفارّين من وجه العدالة، وخصوصاً أولئك الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف، أو أحكام قضائية، حتى إنه يكاد لا ينطلق مركب هجرة إلا وعلى متنه أكثر من مطلوب؟.
آخر فصول حكاية مركب الموت الذي غرق قبالة السواحل السورية، وذهب ضحيته أكثر من مئة شخص غالبيتهم من الجنسية السورية ما يتم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن اختفاء عدد من الناجين في سوريا، ومنهم فؤاد حبلص، ابن بلدة ذوق الحبالصة في عكار.
الرواية التي يتناقلها الأقارب تقول بأنه بعد حادثة الغرق توجهت شقيقته إلى سوريا حيث زارته في مستشفى الباسل في طرطوس برفقة زوجته، وتم توثيق وجوده هناك بالصور والفيديو. وبعد الاطمئنان إليه غادرتا المستشفى، وعندما عادتا صباح اليوم التالي لزيارته أخبرها أحدهم بأنه نقل إلى المستشفى العسكري، فتوجّهت إلى هناك،إلا أن عنصر الأمن رفض إدخالها، بحسب روايتها، وقال لها "غير الله ما بقى يشوفو".
وفي حين تنفي عائلة حبلص أن يكون ابنها مطلوباً أمنياً، أو أن يكون ملاحقاً بأيّ ملف قانوني لدى الدولة اللبنانية، إلا أنّ مصادر أمنية مطّلعة على مسار التحقيقات حول غرق مركب الموت كشفت أنه" مطلوب من قبل الدولة اللبنانية بجرم الإرهاب وعلى ارتباط بمجموعات إسلامية متطرفة وجرى التواصل مع أحد الأجهزة الأمنية في لبنان الذي طلب توقيفه وتسليمه إلى الدولة اللبنانية".
اللافت في مشهديات قوارب الهجرة غير الشرعية أنه على رغم التماس المهاجرين طعم الموت والذل إلا أنهم مستمرون في تنظيم أنفسهم كقوافل والمجازفة بحياتهم وحياة أولادهم سعيا وراء تحقيق حلم الهجرة "الكبير" غرباً أو الموت غرقا مع عائلته، أو في أقل الاحتمالات بشاعة، أن يرجع خالي الوفاض من رحلة لم تكتمل.
بحسب المحامي محمد صبلوح الذي يتابع ملفات الناجين من رحلات الهجرة المذلة، وأهالي ضحايا زورق الموت الذي غرق قبالة جزر النخل في طرابلس في نيسان الماضي، فإن الأوضاع الإقتصادية وتفشي الفقر وراء اندفاع غالبية العائلات إلى بيع كل ما يملكون من أثاث ومصاغ وحتى ملابس لتأمين كلفة حجز مكان على مراكب الموت مع أفراد عائلته "في كل مرة أسأل أحد الناجين عن الأسباب التي دفعته إلى هذه المجازفة غير المضمونة النتائج يأتي الجواب"عم نموت ألف موتة يوميا إذا في أمل واحد في المئة بالنجاة والهرب ما راح إتراجع وراح إرجع غامر وأهرب بالبحر".
إلى هذا الحد وصل اليأس لدى أبناء طرابلس الذين باتوا في معظمهم رهينة "عصابات التهريب" علما أنه بحسب أحد أبناء المدينة يمكن "لأي شخص أن يبتاع مركبا ولا يسجله بإسمه. أما الزعامات فتنحصر برأس الهرم الذي يدير الشبكة ويتواصل مع السماسرة في الداخل اللبناني كما الخارج وتحديدا في سوريا كما أنه يملك شبكة علاقات مع عناصر في أجهزة أمنية والمرجح أنها تتولى عملية تغطية خروج الزوارق التي تقل المهاجرين غير الشرعيين مقابل مبالغ مالية.
وعند وصول الزورق إلى خارج حدود الشاطئ يتولى السمسار تبليغ الأجهزة الأمنية التي تنطلق بطراداتها للحؤول دون إكمال رحلة الموت. وغالبا ما تنجح في ذلك. وفي حال تمكن المركب من الخروج من المياه الإقليمية يقوم الزعيم إما بإيقافه بحجة وجود خلل ما أو بسبب نفاذ كمية الوقود والنتيجة إما غرق الزورق في حال بقائه في عرض البحر وسط الأمواج العاتية أو تسليمه لخفر السواحل القبرصية أو اليونانية"وما أدراكم عن المعاناة ومعاملة الذل التي يتعرض لها المهاجرون على أيدي شرطة السلطات القبرصية أو اليونانية والمعاملة التي تضرب بحقوق الإنسان عرض الحائط. وعندما يعود الناجون يكتشفون أنهم "على الحضيض بعدما يكونون قد باعوا الأخضر واليابس".
الرادع الوحيد بحسب صبلوح هو قيام خفر السواحل اللبنانية بتسيير دوريات على طول الشاطئ بمعدل 24 ساعة على 24 ومحاكمة الموقوفين بتهمة الإتجار بالبشر وفق المادة 586 من قانون العقوبات التي تصل إلى المؤبد. إلا إذا كانت هناك نوايا مبيتة لتسهيل خروج أبناء طرابلس بعد تيئيسهم بسبب الفقر والعوز !".
ثمة من نجح في الوصول إلى هدفه وثمة من خاب أمله وعاد أدراجه إلى لبنان، وثمة من فقد حياته في البحر، ليرحل تاركا جرحا في قلب عائلته وأقاربه والأكيد أن ثمة من لم ولن تردعه كل المشاهد والروايات ويتحضر لرحلة هجرة غير شرعية جديدة وربما موت شرعي.