زيارة لودريان: إطار سعوديّ – أميركيّ لخروج اليونيفيل..

عاد المبعوث الرئاسي الفرنسي جان- إيف لودريان إلى لبنان، ضمن تنسيق فرنسيّ مباشر مع كلّ من الفاتيكان والسعوديّة والولايات المتّحدة. تعكس هذه الزيارة تمسُّك باريس بصيغة لبنان 1920، وبإعادة تثبيت موقعه ضمن الشرعيّة الدوليّة. تأتي زيارته في لحظة انتقاليّة دقيقة يدخل فيها لبنان مرحلة جديدة، لا سيما بعد قبول السلطة اللبنانيّة توسيع نطاق تمثيلها داخل لجنة “الميكانيزم”. وهي خطوة كانت باريس قد أوصت بها سابقاً، عبر قنوات القرار، وتقول بضرورة حضور الجانب التنفيذيّ اللبنانيّ على الطاولة.

تنطلق أسس جولة لودريان من تثبيت مرتكزات اتّفاق تشرين الثاني 2024 وتطويره تدريجاً تماشياً مع المتغيّرات المستجدّة، بما يضمن حماية المصلحة اللبنانيّة. يدخل لبنان مسار تسوية لا عودة عنه ولا قدرة له على الهروب منه، فيما تتّجه الأنظار إلى ما يحمله المستقبل من استحقاقات. تحمل سلّة لودريان ملفّات واسعة، أبرزها الرؤية الفرنسيّة والدوليّة للدور المستقبليّ للقوّات الدوليّة في الجنوب. ماذا تتضمّن الزيارة من تفاصيل؟

محورا الزّيارة الأساسيّان

تركّز زيارة لودريان على نقطتين رئيستين:

1- الانتقال بلبنان من مرحلة مهمّة قوّات “اليونيفيل” بصيغتها الراهنة، إلى صيغة دوليّة انتقاليّة أصغر عدداً وأكثر ارتباطاً بالقرار 1701، بهدف مواكبة دخول لبنان إلى المرحلة الثانية من اتّفاق وقف العمليّات العدائيّة وتثبيت الهدنة. يتمّ ذلك بالتنسيق مع الجيش اللبنانيّ والمؤسّسات الأمنيّة الشرعيّة، ومع تكريس حضور عسكريّ لبنانيّ أكبر جنوب الليطاني.

2- تسريع ترسيم الحدود الشرقيّة بين لبنان وسوريا، وهو مطلب فاتيكانيّ ثابت لا تراجع عنه، حمايةً لصيغة لبنان 1920، ولمنع تنفيذ الخطط الإسرائيليّة الرامية إلى إنشاء نقاط احتلاليّة جديدة على الأراضي اللبنانيّة. يهدف هذا المسار إلى منع توسعة المنطقة العازلة، وإلى منع عزل الحدود اللبنانيّة عن سوريا.

تثبيت اتّفاق تشرين الثّاني 2024

يكشف مصدر رئاسيّ فرنسيّ لـ”أساس ميديا” أنّ جوهر اتّفاق تشرين الثاني 2024 أصبح في حالة شبه سقوط وعجزٍ عمليّ سريع، إذ لم يصمد وقف العمليّات العدائيّة أكثر من أسبوعين. امتدّ تطبيقه من لحظة التوقيع حتّى صباح 8 كانون الأوّل، وهو التاريخ الذي شهد سقوط نظام الأسد في سوريا.

أدّى هذا التحوّل إلى تبدّل جذريّ في المشهد الاستراتيجيّ، إذ لم يكن الاتّفاق معدّاً للتعامل مع منطقة تدخل في حالة توازن جديدة. كان “الحزب” قد وافق على الاتّفاق عبر الرئيس نبيه برّي، انسجاماً مع الظروف المتقلّبة حينها، ومع وجود النظام السوريّ الذي كان يشكّل ضمانة استراتيجيّة عبر إمساكه بالجغرافيا السوريّة والممرّ الممتدّ من طهران إلى بيروت مروراً بالعراق وسوريا. تعامل “الحزب” مع اتّفاق تشرين الثاني بالمنهج نفسه الذي اعتمده تجاه القرار 1701 في عام 2006.

كان الهدف رسم قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل، لكنّ ذلك أصبح مستحيلاً بعد سقوط نظام الأسد، وتحوُّل سوريا سياسيّاً إلى الضفّة المقابلة. ولم يعد الأمر مقبولاً إسرائيليّاً بعد ما تعتبره تل أبيب “هزيمة كاملة للمحور”، وهو ما دفعها إلى السعي إلى الحصول على مكاسب إضافيّة تتجاوز مضمون الاتّفاق.

يبحث “الحزب” اليوم عن معايير جديدة تتلاءم مع المتغيّرات المحليّة في لبنان والمتغيّرات الإقليميّة من سوريا والعراق وصولاً إلى ضرب إيران. يواصل تصلّبه بدفع من الإشارات الإيرانيّة، ويستمرّ في الخروقات بالتوازي مع إسرائيل، مستغلّاً الوقت بانتظار اللحظة الإيرانيّة المناسبة في المفاوضات الأميركيّة. يعلن استمرار بناء ترسانته وبنيته العسكريّة، بينما تتقدّم إسرائيل بخطوات محسوبة ضمن تفوّقها العسكريّ لترسيخ مكاسب ما بعد المعركة.

لا يريد “الحزب” تنفيذ الاتّفاق بصيغته الحاليّة، بل يسعى إلى صياغة جديدة تضمن له وزناً داخل النظام اللبنانيّ، فيما لا تريد إسرائيل الاتّفاق كما هو، بل تبحث عن صيغة أوسع وأشدّ.

الرّؤية الفرنسيّة وموقع الدّولة اللّبنانيّة

تكشف أوساط الإدارة الفرنسيّة لـ”أساس” أنّ خطوة تعيين السفير السابق سيمون كرم تتجاوز المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وتتعدّى الطابع التقنيّ. تجنّبت هذه الخطوة استهداف مؤسّسات الدولة، وترى فيها باريس إشارة بالغة الأهميّة إلى اقتراب لبنان من مفهوم الدولة الطبيعيّة.

بدأ لبنان خطوات جدّيّة نحو تعزيز سيادته الشاملة، ويجلس اليوم إلى الطاولة باسمه، ويسعى بالتوازي إلى تكريس حصريّة السلاح بيد الدولة على كامل الأراضي اللبنانيّة. يُفترض أن تؤدّي هذه المسارح إلى مستقبل أكثر استقراراً وإلى فتح الباب أمام دعم دوليّ كامل.

تمهّد هذه المرحلة أيضاً لإطلاق المرحلة الثالثة من الدعم الدوليّ، أي مرحلة التمويل والمنح المخصّصة للجيش والأجهزة الأمنيّة الشرعيّة عبر المؤتمر الدوليّ المرتقب، بالتوازي مع تحضير مؤتمر إضافيّ لتعزيز قدرات قوى الأمن الداخليّ، بما يتيح تخفيف العبء عن الجيش ويعزّز انتشاره الكامل على الحدود اللبنانيّة.

الدّور المستقبليّ لقوّات “اليونيفيل”

نجحت الدبلوماسيّة الفرنسيّة في صياغة قرار التمديد للمرّة الأخيرة لقوّات “اليونيفيل”، على أن يبدأ تفكيكها وخفض عديدها تدريجاً حتّى نهاية عام 2026. تستغرق هذه العمليّة سنة إضافيّة.

ربطت باريس هذا المسار بضرورة دعم الدولة اللبنانيّة وتعزيز انتشار الجيش، فيجري تخفيض عدد الجنود الدوليّين والميزانيّة المخصّصة لهم على أن تُحوَّل الميزانيّة إلى الجيش اللبنانيّ.

لا تريد فرنسا أيّ فراغ لوجستيّ في الجنوب قد يُفهم تحرّراً من سيادة الدولة، كما حصل سابقاً في التطبيق السلبيّ للقرار 1701 عندما طُبّقت “قواعد الاشتباك” بتفاهمات أميركيّة – إيرانيّة.

تعتبر باريس أنّ وجود “اليونيفيل” في لبنان شاهداً وشريكاً دوليّاً، لا بديل عنه لتثبيت الاستقرار. لذلك تشدّد على انسحاب تدريجيّ متوازن، بالتوازي مع مساعدة لبنان على بسط سلطته. تعمل الإدارة الفرنسيّة على الاستفادة القصوى من الثغرات القانونيّة في القرار 1701، بما يسمح بإمكان تعديل مهامّ “اليونيفيل” أو توسيع نطاقها الجغرافيّ بما يخدم الواقع اللبنانيّ والقرارات الدوليّة كافّة.

في الخلاصة، تعكس الزيارة الحاليّة استمراراً للدبلوماسيّة الفرنسيّة الحيويّة تجاه لبنان. يقوم لودريان بجولته بصفته موفداً خاصّاً لمتابعة الجهود المستدامة لخفض التصعيد ومعالجة الأزمة وتثبيت الاستقرار، بتنسيق مباشر مع الفاتيكان والسعوديّة والولايات المتّحدة.

يبقى السؤال الأساس: هل تنجح هذه المساعي في تحقيق “الانتقال اللبنانيّ الهادئ” نحو دولة كاملة السيادة؟