سرديات "حرب باردة" تتلاعب بشلالات دماء!

في زمن الحرب اللبنانية التي كانت منذ منتصف السبعينات حتى انهيار الاتحاد السوفياتي السابق احدى بقع الحرب الباردة في العالم، انعكست كل الحقبات المتصلة بمحاولات إحلال سلام عربي -إسرائيلي على لبنان بأوخم العواقب، وكانت غالباً ما تفجر فيه جولات حروب او اضطرابات تعكس حروب الآخرين وصفقاتهم على أرضه.

كانت اشد تجارب هذه الحقيقة قسوة عقب زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل التي فجرت حرب المئة يوم الأسدية في لبنان . كما ان اتفاق كامب ديفيد أدى إلى جولات إراقة دماء في لبنان، ولا حاجة للبنانيين من جيل الحرب الى من يذكرهم بما واكب تفاق 17 أيار وأعقبه، والذي مثل النموذج الأشد شراسة لإخضاع لبنان لموجبات الاحتلال ومن ثم لتركه فريسة ميزان قوى مختل وعدم توفير الحماية اللازمة له امام قوى إقليمية تتحكم بأرضه ووضعه وتمزقه شر تمزيق .

لا يشبه الزمن الحالي تلك الحقبات بواقع انعدام وجود حرب باردة بين معسكري اميركا والاتحاد السوفياتي، لكن شيئاً من استحضارات الماضي العائد للستينات والسبعينات ومطالع الثمانينات لا يزال يتلاعب بمصير لبنان وأنحاء مختلفة من المنطقة، يصعب تجاهله في لحظة ترقب مصير اقوى محاولة جدية حديثة لانهاء حرب غزة وما يمكن ان يناله لبنان من انعكاساتها. ذلك ان الكثير من العوامل المترابطة بين حربي غزة ولبنان لا يزال قائماً، سواء اعترف البعض بهذا الترابط ام لم يعترف . فحين يخرج قائد الحرس الثوري الإيراني قآاني من اختفائه وصمته ليعزز سردية يصعب تصديقها أن إسماعيل هنية وحسن نصرالله لم يعرفا مسبقاً بعملية "طوفان الأقصى"، فهذا يزيد خطورة تحميل قادة "حماس" و"حزب الله" تبعات حرب غزة وحرب لبنان لناحية القرار الميداني المباشر، ولكنه يحمل ايران اكثر فأكثر تبعات إفناء مئات ألوف الفلسطينيين واللبنانيين في الحروب العبثية المدمرة للحفاظ على نفوذ إيراني بائد في البلدان العربية المحيطة بأسرائيل. لا الحرس الثوري الإيراني ولا علي لاريجاني الذي صار "يستحلي" دور غازي كنعان ويستوحيه في الإمساك بـ"حزب الله" ومحاولة التأثير على لبنان، تركا مجالاً محدوداً إن في ذكرى سنة على اغتيال نصرالله او قبيل ذكرى السنتين على اشتعال أشرس حرب في تاريخ الشرق الأوسط بعد "طوفان الأقصى"، لتجاهل الدور الإيراني الخطير في تفجير شلالات الدماء من غزة حتى طهران نفسها.

والبارحة، اطل الشيخ نعيم قاسم الذي يبدو كأنه اختط مساراً مختلفاً كثيفاً للغاية في الإطلالات الأسبوعية ربما يتصل بوضع داخلي متعب ومضطرب لقيادته الحزب كما لواقع الحزب الحقيقي خلافا للبهورة الإعلامية والدعائية، ليلقن الشقيقة في المحور بالروح والعقيدة والارتباط حركة "حماس" درساً في المزايدة على موقفها "المستسلم" لخطة ترامب وسط ازدواجية كارثية. إذ ان الأمين العام للحزب الذي تزعم ايران ان أمينه العام الراحل نصرالله اتخذ القرار منفرداً في حرب المساندة غداة "طوفان الأقصى"، ينهال على خطة ترامب بالأوصاف التي ترسخ تبعة الاستسلام لإسرائيل من جانب "حماس"، فيما الشيخ قاسم يبرز في الجانب الآخر عدم رد حزبه على الاعتداءات الإسرائيلية لمنعها من مزيد من التوحش!

لعل مجمل هذا الاضطراب عشية الذكرى الثانية لـ 7 تشرين الأول يستدعي عدم اسقاط  بعض استحضارات زمن الحروب الباردة من الحسابات، فإيران إياها في مواجهة إسرائيل وأميركا لا تزال تمعن في ترسيخ سعيها القاتل إلى "صفقة القرن" مهما سالت دماء إضافية.