المصدر: الراي الكويتية
الأربعاء 7 حزيران 2023 08:02:56
فيما تحاصر إشكاليات الصرف والتشريع مجدداً مخصصات القطاع العام، يَحجب الهدوءُ النقدي المتواصل في سعر صرف الليرة اللبنانية تساؤلات ترقى الى مستوى القلق الجدي والمتنامي في الأوساط المالية والمصرفية، مع تمدّدٍ مشابه الى شركات الصرافة والصرافين في الأسواق الموازية للمبادلات النقدية، ربطاً بالغموض الذي يكتنف مستقبل مركز «صانع» القرار في السلطة النقدية.
وبحسب مسؤول مالي معني، فإن لبنان خسر فعلياً غالبية ركائز الاستقرار النقدي بعد انفجار الأزمات المستمرة. وما من أدوات تقنية كافية لصدّ محفزات التدهور، ما لم ترتكز الى استقرار سياسي وإعادة انتظام السلطات والشروع بتنفيذ إصلاحاتٍ هيكلية شاملة وخطة إنقاذ معزَّزة بإبرام اتفاقية برنامج التمويل المعقودة بصيغةٍ أولية مع صندوق النقد الدولي منذ نيسان من العام الماضي.
بذلك، فإن المثير حقاً، وفق المسؤول عينه، أنه في موازاة التباسات الشغور المرتقب في حاكمية البنك نهاية يوليو المقبل من جهة، وزحمة الإحداثيات والتطورات التي تُرافِقُ الملاحقات القضائية لشاغل الموقع رياض سلامة من جهة أخرى، يَبرز الغياب الغامض لأي تأثير سلبي لعوامل الإرباك المتعاظمة في المشهد النقدي على ثبات سعر الدولار للشهر الثالث على التوالي بين حديْ 94 و 95 ألف ليرة في التعاملات السوقية، ومعه استمرار مصرف لبنان على تدخله بائعاً الدولار النقدي عبر منصة صيرفة بسعرٍ خفّضه الاثنين الى 86200 ليرة (كان 86300 ليرة).
أمّا في الرصد السوقي، فيبرز ثبات البنك المركزي على مواصلة تنفيذ مبادرة التدخل المباشر لضخ الدولار النقدي والتي أشهرها يوم 21 مارس الماضي، عقب الارتفاع الجنوني للدولار «الأسود» الى نحو 145 الف ليرة. وبالمثل لوحظ عدم تسجيل نقص بديهي جراء التدخل في مستوى احتياطات العملات الصعبة لديه، بل تحقيق زيادة بنحو 100 مليون دولار ليحتفظ المخزون بمستواه الأسبق عند 9.53 مليارات دولار.
وبانسيابٍ غير معهود في كل تجارب التدخل السابقة للتدخل الأخير، تستمرّ عمليات المبدلات النقدية عبر المنصة بمتوسطات تجاوزت الـ 130 مليون دولار في الأيام الأخيرة (بينها 205 ملايين دولار في 1 يونيو و175 في 5 يونيو) وبحصيلة تراكمية تخطت حاجز 3 مليارات دولار، لتعكس قدرة السلطة النقدية على التحكم بأسواق المبادلات وتهدئة سعر صرف الليرة، وبمعزل عن الضغوط العامة والسوقية في آن واحد.
وفي التفسيرات، وفق مصادر معنية، أن التدابير التشاركية تسجّل نجاحات مشهودة في تقدُّم كفاءة إدارة السيولة النقدية، وهي تتكامل في بلوغ الاستهداف بين قرارات وزارة المال التي فرضت تحصيل الجزء الوازن من موارد الخزينة (الجمارك والرسوم والضرائب) بالأوراق النقدية بالليرة وجزئياً عبر الشيكات والتحويلات، وبين «شفط» سيولة الليرة المتداولة في الأسواق عبر إتاحة استبدالها بالدولار النقدي من خلال منصة البنك المركزي.
وبحسب أحدث البيانات، فإن إجمالي الكتلة النقدية السائلة بالليرة في التداول، يبلغ نحو 75 تريليون وفق الميزانية الموقوفة منتصف الشهر الماضي لدى مصرف لبنان. وبعملية حسابية بسيطة، فإن تجفيف هذه السيولة تماماً يتطلب ضخّ نحو 869 مليون دولار، اي نحو 9 في المئة فقط من الاحتياطي القائم.
وبالتوازي، تتقدم عمليات «الدولرة» في الأسواق الاستهلاكية باضطراد غير مسبوق، جراء صرف رواتب موظفي القطاع العام بالدولار النقدي وبسعر كان «مدعوماً» على 60 الف ليرة لكل دولار بنهاية شهر ابريل من جهة، وبتقدُّم مماثل في تماهي القطاع الخاص مع مقتضيات تعديل المداخيل بالدولار وبما يكفل سد جزء مهم من فجوات الأجور والرواتب من جهة أخرى. فضلاً عن تعميم ظاهرة التسعير بالدولار في أسواق الاستهلاك ومحطات المحروقات وبدلات الكهرباء من المولدات وسواها، مع اتاحة السداد بالليرة وفق السعر السوقي الساري.
وتَنَبّه البنك الدولي الى تعاظم حجم الإقتصاد النقدي اللبناني الى مستوى 9.86 مليار دولار، اي ما يشكّل 45.7 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي البالغ نحو 21.55 مليار دولار بنهاية العام الماضي وذلك سندا الى نموذج قياس مبتكر خاصّ بلبنان، ويرتكز في التتبع الى ستّة مصادر للنقد المتداول بالدولار الأميركي.
وتشمل هذه السلّة، السحوبات النقديّة للودائع المصرفيّة بالدولار الأميركي الموجودة في المصارف قبل بدء الأزمة، وتدخّلات مصرف لبنان في السوق من خلال إستعمال الإحتياطات بالعملة الأجنبيّة المتبقيّة عن طريق إصدار تعاميم، وتحويلات المغتربين بالدولار الأميركي، والأوراق النقديّة بالدولار المخزّنة في المنازل منذ إندلاع الأزمة، والدولار الأميركي الذي يدخل إلى البلاد عبر قنوات شرعيّة وغير شرعيّة، والمساعدات الإنسانيّة والإنمائيّة النقديّة، والودائع المصرفيّة بالدولار الفريش والتي دخلت المصارف بعد الأزمة والتي لا تخضع لتدابير الكابيتال كونترول غير الرسمي التي فرضتْها المصارف، والتي هي بغالبيّتها رواتب وتحاويل دوليّة.
وبحسب البنك الدولي، فقد تمّ إبتكار ظاهرة الإقتصاد النقدي في لبنان على إثر الأزمة الماليّة والإقتصاديّة الأخيرة وفقدان الثقة في القطاع المصرفي اللبناني، مع العلم أنّ غالبيّة المعاملات الماليّة تُدفع نقداً كما أنّ خطوط الإئتمان التي يقدّمها القطاع المصرفي أصبحتْ مضمونة نقداً بالكامل.
وأشار البنك الدولي أنّ تقدير حجم الإقتصاد النقدي أمرٌ ضروريٌّ لفهم طبيعة المعاملات وتقييم التبعات المحتملة لتفشّي الإقتصاد النقدي على سلوك السياسة الماليّة والنقديّة. لكنه ينوّه في أحدث تقرير له، بأنّ نموّ الإقتصاد النقدي يعني أنّ السياسة الماليّة في البلاد ليست فعّالة، حيث أنّ تفشّي الإقتصاد النقدي غير مرغوب به لناحية النظام الضريبي، ولا سيما لجهة إيجاد فرص للتهرّب. كما أنّ السياسة النقديّة تَفقُد من فعاليّتها كون المعاملات النقديّة تَستَبدِل المعاملات المصرفيّة.