"سلامُ المسيح" من حريصا… زيارة البابا التي أعادت النبض إلى لبنان

في لحظاتٍ تثقل كاهل اللبنانيين وتزيد منسوب القلق على مستقبل وطنٍ أرهقته الأزمات، تأتي زيارة البابا إلى لبنان كنسمة رجاء تنعش القلب وتعيد إليه القدرة على الحلم. ليست زيارة بروتوكولية، ولا هي مجرّد محطة روحيّة كغيرها، بل هي عودةٌ إلى قلب شعبٍ يشعر بأن العالم قد نسيه، فيطلّ عليه البابا ليقول له بلغة الأب: "أنا معكم… أنتم لستم وحدكم"، إنها زيارة تعيد للبنان مكانته الروحية التي لطالما شكّلت جزءًا من هويته، وتذكّره بأن القداسة لا تزال تسكن جباله وكنائسه وبيوته، مهما اشتدّت العواصف.

ظهر يوم أمس الإثنين، ترأس الحبر الأعظم في بازيليك سيّدة لبنان - حريصا اللّقاء الرّعويّ الجامع مع الأساقفة والكهنة والمكرّسين والعاملين في الرّعايا. وكانت المناسبة فرصة استمع خلالها إلى شهاداتٍ مؤثرة عن اختبارات حياة إيمانيّة، كشفت عمق الألم لكن أيضًا عمق الإيمان الذي لا يزال يشعّ في نفوس اللبنانيين.

وعند مدخل البازيليك، ارتدى الأب الأقدس البابا لاوون الرابع عشر "الغفّارة"، وهو لباسٌ تكريميّ مخصّص للعذراء مريم، في مشهدٍ حمل رمزيّة روحيّة كبيرة، خصوصًا في مقام سيدة لبنان، حيث يلتقي اللبنانيون، مهما اختلفت طوائفهم، تحت عباءة مريم.

وخلال توجّهي إلى المدخل الأساسي في الوسط المؤدّي إلى مذبح البازيليك، كان قلبي يتقدّم قبل قدميّ نحو الأب الأقدس طلبًا للبركة الرسولية. ومع اقترابي، التفت نيافته إلى الجهة المقابلة، فدفعتني البساطة والإيمان أن أضع يدي برفق على ظهره برجاءٍ صامت. عندها التفت إليّ مبتسمًا، وربّما هامسًا في نفسه: "بَرَكتي لك".

كانت لحظات قصيرة حملت في عمقها دفئًا روحيًا غمر البرد القارس في البازيليك، حتى شعرتُ لوهلةٍ أنني أمام مشهد من الإنجيل، كأنني "النازفة" التي لمست ثوب المسيح لتبرأ. تلك الالتفاتة وابتسامته لم تكونا مجرّد لحظة عابرة، بل بركة رسولية خُطَّت في القلب، تختصر معنى الرجاء في زمن العتمة.

ومن على المذبح، ألقى البابا لاوون الرابع عشر كلمة، حيث وضع الكرسي الخاص بالحبر الأعظم، مؤكدًا خلال كلمته أهمية الشباب اللبناني ودورهم في مستقبل الوطن والكنيسة. ولعلّ اللحظة الأكثر تأثيرًا كانت عندما قال بالعربية: "سلام المسيح"، وكأنه يوجّه البركة مباشرة إلى قلوب اللبنانيين الباحثين عن سلامٍ ضائع.

وفي حديثه لـ "نداء الوطن"، شدّد المطران أنطوان بو نجم على أن "زيارة البابا في هذا التوقيت الدقيق هي زيارة بالغة الأهمية، ورسالته اليوم واضحة جدًا: فهو آتٍ ليحمل لنا رسالة سلام، إذ يكفي عنوان الزيارة ليدرك كلّ واحد منا أنها ليست زيارة عادية، بل دعوة لتجسيد السلام في حياتنا اليومية".

أضاف بو نجم أن توقيت الزيارة يتزامن مع أجواء توتر واحتمالات حرب، "لكننا نأمل ونصلّي أن تساهم هذه الزيارة في وقف الحرب، لا العكس… لدينا رجاء راسخ أن هناك بارقة أمل".

ومن على مذبح بازيليك سيدة لبنان، منح الحبر الأعظم البركة الرسولية لكلّ المشاركين، مقدّمًا الوردة المذهّبة هدية للبازيليك، كما تسلّم أيقونة تظهر تمثال سيدة لبنان محاطًا بالبطاركة المسيحيين، الكاثوليك، الموارنة، الأرثوذكس، الأقباط، الأشوريين، السريان...

ولدى مغادرته البازيليك، قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لـ "نداء الوطن": "لزيارة البابا أهمية بالغة"، مكتفيًا بالكلمات القليلة التي تعبّر بقدر اختصارها عن عمق المعنى.

أما غبطة البطريرك يوسف الثالث يونان، فعبّر قائلًا: "كنا اليوم في فرح وبهجة ورجاء… فقد جاء البابا ليؤكد لنا أن لا خوف بعد اليوم، وأن الرب يسوع معنا".

وتابع في حديثه لـ "نداء الوطن": "كونوا أقوياء بالإيمان، ثابتين في هذا الوطن العزيز، كونوا مثالًا في المحبة والرجاء".

كما عبّر الأب خليل رحمة، رئيس جوقة جامعة سيدة اللويزة، عن فرحته الكبيرة قائلًا: "هذا البابا الثالث الذي أشارك بخدمته خلال زيارته إلى لبنان، فالمسؤولية كبيرة، لكن الثقة التي منحت لنا تجعلنا نخدم بفرح"، طالبًا من الرب أن يجعل هذه الزيارة مصدر نعمة للجميع.

إذًا، تبدو زيارة البابا إلى لبنان أكثر من حدثٍ روحي أو سياسي، فإنها "نافذة رجاء" تفتح في زمن العتمة، ونداءٌ وطنيّ عميق لحماية لبنان وإحلال السلام فيه.